تزامنًا مع الدعوات المتكررة للرئيس الصيني شي جين بينج لجيش بلاده بتعزيز الاستعداد القتالي، كشفت وكالة "بلومبرج" الأمريكية في 14 سبتمبر 2023، عن تقييمات استخباراتية أمريكية تُرجّح ارتفاع حجم الإنفاق الدفاعي الفعلي لجيش التحرير الشعبي الصيني إلى 700 مليار دولار سنويًا بمعدل يقترب من 4% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، في زيادة عن حجم الإنفاق الرسمي الذي أعلنته الحكومة في 5 مارس الماضي بواقع 1.55 تريليون ين (225 مليار دولار).
وفي ظل التخوف من سوء إدراك قادة الجيشين الأمريكي والصيني لمخاطر غياب قنوات تواصل عسكري فعّال بين الجانبين، بالتزامن مع استمرار الرقابة المشددة على قطاعات التكنولوجيا الفائقة، خاصة صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي، أعلن عملاق التكنولوجيا الصيني الخاضع للعقوبات "هواوي" عن اختراقات مهمة في صناعة الرقائق المتطورة عبر الكشف عن منتجات وهواتف جديدة من الجيل الخامس في 25 سبتمبر الجاري.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي أبعاد مشروع التحديث العسكري الصيني وانعكاساتها على التوازن الاستراتيجي في منطقة الإندوباسيفيك.
أولويات استراتيجية
أعلنت الصين، الأحد 5 مارس 2023، زيادة الإنفاق الدفاعي السنوي 7.2% بقيمة 1.55 تريليون ين (225 مليار دولار)، بزيادة عن العام الماضي التي بلغت نسبة زيادتها 7.1% بفارق 15 مليار دولار، بينما لم تتجاوز ثلث ميزانية الإنفاق الدفاعي الأمريكي التي بلغت للعام الحالي 858 مليار دولار.
(*) استمرار التحديث: شغلت عملية التحديث العسكري الحيز الأهم من تصريحات الزعيم الصيني شي جين بينج منذ تأكيد موقعه أمينًا عامًا للجنة المركزية بالحزب الشيوعي ورئيسًا للجنة العسكرية المركزية، خلال المؤتمر الوطني العشرين للحزب، وقبيل تجديد ولايته الرئاسية الثالثة بنهاية أعمال المجلس الوطني الـ14، ففي 8 مارس 2023، عقد الرئيس الصيني شي جين بينج اجتماعًا مع وفد جيش التحرير الشعبي الصيني، على هامش انعقاد الدورة الأولى للمجلس الوطني الرابع عشر لنواب الشعب الصيني، أشار خلاله إلى أولوية تعميق الاعتماد على الذات في مجال التكنولوجيا وتحقيق أهداف الذكرى المئوية للجيش 2027 عبر بناء جيش قوي ذي معايير عالمية.
وفي 11 أبريل 2023 دعا الرئيس الصيني خلال تفقده بحرية قيادة المسرح الجنوبي بجيش التحرير الشعبي الصيني، إلى تعزيز الاستعداد وتكثيف التدريبات العسكرية القتالية في ظل ظروف إقليمية ودولية قاسية للدفاع عن سيادة الصين على أراضيها وحماية حقوقها ومصالحها.
خطابات الرئيس شي والمسؤولين الصينيين خلال انعقاد الدورة الأولى للمجلس الوطني الرابع عشر شددت على مواجهة بيئة دولية عدائية، إذ تعترض بكين محاولات "قمع واحتواء" من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها، كما تضمنت توجهات جديدة في إطار خطط التحديث وإعادة الهيكلة للحزب والدولة، وسط زيادة الإنفاق الدفاعي (المعلن) بنسبة 7.2% خلال 2023.
وعزّز الرئيس الصيني شي جين بينج موقعه في السلطة من خلال إقرار مركزية مبدأ "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد"، والسير في نهج تحديث الجيش الصيني بما يضمن تحوله إلى جيش عالمي بحلول الذكرى المئوية للجيش 2027، ومن أولويات تحقيق ذلك الهدف يتعين بناء نظام لقوات الردع الاستراتيجي وزيادة عدد القوات القتالية في مجالات جديدة، وتعزيز التدريبات العسكرية الموجهة نحو القتال، وفي إشارة لقدرة الجيش على حسم معارك كبرى قال الرئيس الصيني في 8 مارس إن "على الصين امتلاك قوة شاملة منظمة قادرة على مواجهة المخاطر الاستراتيجية وحماية المصالح الاستراتيجية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية".
(*) الحوكمة العسكرية وتوطين القدرات الحرجة: اتجهت بكين ضمن جهود إعادة الهيكلة للدولة والحزب ودعم القدرات الاستراتيجية الوطنية المتكاملة، إلى إعادة هيكلة وزارة العلوم والتكنولوجيا، بهدف تعظيم جودة وكفاءة وتكامل القدرات التكنولوجية الوطنية "مع التركيز على الابتكار المستقل والأصيل". ويعتمد تحديث الجيش في خطة التحديث بمرحلتها الأولى على آليتين أساسيتين للحوكمة العسكرية هي "المعلوماتية Informatization" من الناحية التنظيمية المؤسسية وكذلك في رفع كفاءة الفرد المقاتل وتحديث الأسلحة والمعدات، و"الذكاء الاصطناعي Intelligentization"، حسب "جلوبال تايمز" الصينية.
وفي المرحلة الثانية من المستهدف أن ينتقل جيش التحرير الشعبي الصيني في ذكرى مئوية التأسيس (2027) إلى جيش أكثر خفة وذكاءً، من خلال تقليص عدد الجيش وتعزيز برامج التأهيل التكنولوجي لضباطه وأفراده للتحول إلى جيش بمعايير عالمية، وتطوير القدرات في المجالات الناشئة ومنها القدرات السيبرانية والنووية ومكافحة التهديدات في الفضاء الخارجي. وتهدف في المرحلة الثالثة بحلول 2035، لاستكمال مسيرة التحديث ودمج النظم الذكية والمستقلة بالجيش
ففي مجال تحديث الآليات، ووفقًا لتقييم المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية عام 2022، فإن 60% من وحدات الأسلحة المشتركة بالجيش تمتلك مركبات وآليات مجنزرة حديثة، كما نشرت القوات الجوية 5 لواءات جوية من مقاتلات "J10" الأحدث في المقاتلات الصينية بالمناطق العسكرية الخمس في البلاد بحلول عام 2021.
كما تمثل قدرات الردع الصينية في القوات البحرية والقدرات الصاروخية الأرضية، إذ تمتلك أسطولًا بحريًا ضخمًا يحظى بأهمية كبرى مكون من 340 قطعة من بينها 3 حاملات طائرات وغواصات نووية حديثة ومدمرات صواريخ موجهة وسفن إنزال برمائي. بينما تعد ترسانتها من الصواريخ الفرط صوتية (تتجاوز سرعتها 5 ماخ) أهم سلاح ردع في مواجهة الولايات المتحدة مثل صواريخ "DF-17" و"DF-31" و"DF-41" الباليستية وصاروخ "CJ-100" الموجه. ورجح التقرير السنوي للبنتاجون "قوة الصين العسكرية الصادر بنهاية نوفمبر 2022، أن بكين تسعى لرفع مخزونها من الرؤوس النووية إلى 1500 رأس بحلول 2035.
وفي مجال تطوير القدرات الحرجة والناشئة الداعمة لتطور الجيش الصيني، يثير التقدم الصيني في مجالي الحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي مخاوف الولايات المتحدة، إذ تستخدم الصين مجال الحوسبة الكمّية في تعزيز قدرات أنظمة الذكاء الاصطناعي المستقلة والتنفيذ المحتمل لهجمات سيبرانية على حواسب كمية لمؤسسات خاصة أو منشآت حكومية استراتيجية. ونقل موقع قوة الصين التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية عن باحثين صينيين أن بكين تعمل حاليًا على تطوير رادار عسكري كمّي لكشف المقاتلات الشبحية الأمريكية.
محددات القوة الصينية الضاربة
باستعراض خطوات تحديث الجيش الصيني، والتحليلات الغربية حول الإنفاق الدفاعي الفعلي للصين الذي يقدر بنحو 700 مليار دولار، حسب مقال القائد الأسبق لقوات حلف الناتو الأدميرال جيمس ستافريديس بوكالة "بلومبرج" في 14 سبتمبر 2023، الذي استند فيه لتقييمات مجمع الاستخبارات الأمريكية التي كشف عنها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن الحزب الجمهوري دان سوليفان في يونيو الماضي، يتضح غموض حجم الإنفاق الدفاعي الفعلي للصين ونجاح بكين في الإبقاء على سرية معلوماتها العسكرية بعيدة عن أجهزة الاستخبارات الغربية والأمريكية، ومنها تباين أرقام الإنفاق الدفاعي بين معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
ويرجع ذلك إلى قلة المعلومات المتاحة عن بعض المجالات، خاصة أنشطة البحث والتطوير الموجهة للصناعات التقنية مزدوجة الاستخدام، وتباين مناهج التقييم الغربية في حساب مخصصات الإنفاق الدفاعي الإجمالي للصين على صعيد إدماج بعضها إيرادات أخرى وبعضها يدرج ميزانيات الأجهزة شبه العسكرية والقوات الرديفة للجيش، ومنها قوات الشرطة وخفر السواحل.
(&) البحث والتطوير: وصل إنفاق الصين في مجال البحث والتطوير عام 2022 إلى أكثر من 443 مليار دولار (3.09 تريليون يوان) سنويًا على أنشطة البحث والتطوير، حسب البيانات الرسمية لمجلس الدولة الصيني. وفي المقابل تشير بيانات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية لبلوغها 622 مليار دولار عام 2021، وفي كلتا الحالتين تحل بكين ثانيًا خلف الولايات المتحدة التي تنفق إجمالًا نحو 709 مليارات دولار لذات العام.
ويخلق التوجه الصيني بتعميق الصناعات التكنولوجية الفائقة وفق الخطة العشرية "صنع في الصين 2025"، زخمًا إضافيًا لتوظيف أكبر قدر ممكن من القدرات التكنولوجية لتطوير نظم تسليحية ودفاعية أكثر تفوقًا من نظيرتها الغربية على غرار التفوق الصيني في مجال الصواريخ الفرط صوتية، والمساعي الجارية لتطوير مقاتلات من الجيل الخامس مناظرة لمقاتلتي إف-35 وإف-22 الأمريكيتين.
ومن الجدير بالذكر أن شركة هواوي كشفت في 4 سبتمبر الجاري، بالتزامن مع زيارة وزير التجارة الأمريكية لبكين، عن هاتف جديد يحتوي على رقاقة متطورة من إنتاج شركة تصنيع أشباه الموصلات المحلية "SMIC" بدقة 7 نانو، مع العلم بأن الشركتين تخضعان للعقوبات الأمريكية منذ 2019.
(&) أولوية الوصول لأعالي البحار: يمثل تطوير القدرات البحرية أولوية قصوى في استراتيجية التحديث العسكري الصيني كقوة عالمية تعمل في المياه الزرقاء (أعالي البحار) من خلال تزويده بالقطع الكبيرة القادرة على الإبحار والقتال لمسافات بعيدة عن البر الرئيسي، ما يجعلها قادرة على الاشتباك في مسرح العمليات بمنطقة المحيطين.
ويكشف امتلاك الصين قاعدة لوجستية واحدة بالخارج في جيبوتي، مقابل نحو 750 قاعدة أمريكية بالخارج، حاجة بكين لتوسيع البنية التحتية العسكرية بالخارج، حيث تتركز المصالح الاستراتيجية الصينية خاصة في إطار مبادرة الحزام والطريق التي باتت تواجه منافسة شرسة مع مبادرة مجموعة السبع "الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي".
ومن ثمّ فمن المحتمل أن تبدأ بحرية الجيش الصيني في توسيع الانتشار عبر قواعد بحرية خاصة أو الاحتفاظ بحق الانتشار العسكري في قواعد أخرى بصورة منفردة أو عبر الاشتراك مع الدول الحليفة والقريبة من بكين، ففي بحر الصين الجنوبي جاءت قاعدة ريام البحرية "REAM" في كمبوديا الواقعة بالقرب من مضيق ملقا الاستراتيجي، على رأس تلك القواعد المحتملة، وتتولى بكين أعمال تطوير القاعدة، رغم أن دستور كمبوديا يحظر بناء قواعد أجنبية بالبلاد.
كما تمثل مواني هامبانتوتا (سريلانكا) وجوادار (باكستان) ونكالا (موزمبيق) بالمحيط الهندي، وفانواتو بجزيرة فانواتو جنوب المحيط الهادئ نقاط انتشار محتملة للبحرية الصينية في منطقة المحيطين، بينما قد تعزز استثماراتها في غينيا الاستوائية والكاميرون والجابون بالساحل الغربي لإفريقيا، فضلًا عن المزاعم الأمريكية حول بناء قاعدة تجسس صينية في كوبا، من فرضية تعاون عسكري محتمل يغيّر من طبيعة المشهد في جنوب المحيط الأطلنطي.
إجمالًا؛ تثير خطط التحديث العسكري الصيني مخاوف القوى الغربية في ظل التقييمات الاستخباراتية والبحثية المتباينة لإجمالي الإنفاق الدفاعي الفعلي لجيش التحرير الشعبي في ظل مساعيه للتحول إلى جيش عالمي أكثر ذكاءً وقدرة على الوصول للمياه الزرقاء، ويتوقف نجاح عمليات التحديث في تغيير توازن القوى مع الولايات المتحدة والمنافسين الإقليميين على توسيع الانتشار الجغرافي لوجود القوة البحرية الصينية والتركيز على جعل الجيش أكثر خفة باستخدام التكنولوجيا الناشئة التي تتفوق بكين في بعضها على القوى الغربية.
ورغم الصعوبات الداخلية التي تشي بوجود معوقات لعملية التحديث ومنها تراجع عدد قادة اللجنة العسكرية المركزية من ذوي الخبرات الحربية، والتغييرات التي طالت قيادة القوة الصاروخية نهاية يوليو الماضي والتكهنات الغربية بإقالة وزير الدفاع وعضو اللجنة العسكرية المركزية، تؤكد بكين الاستمرار في خطة تحديث جيش التحرير تحت قيادة الرئيس شي جين بينج عبر تطوير هيكل القيادة والفكاك من مساعي الاحتواء عبر تقييد التدفق المعلوماتي حول حجم وبنود الإنفاق الدفاعي وتجنب فتح خط اتصال مباشر مع الجيش الأمريكي.
ويظل الوضع حول جزيرة تايوان الأعلى في منسوب التوتر بين الصين والولايات المتحدة في ظل التفوق العسكري واللوجيستي الصيني نتيجة قرب مسرح العمليات (المحتمل) من البر الصيني الرئيسي وامتلاك حاملات طائرات وسفن إنزال وقوة صاروخية ضاربة، بينما يتحرك الجيش الأمريكي لتعزيز الوجود حول الجزيرة عبر الوجود الكثيف في القواعد اليابانية شرقًا وتعزيز الانتشار في القواعد بالفلبين بالاتجاه الجنوبي الغربي.