شهدت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى الرياض في الفترة من 7 حتى 9 ديسمبر 2022، ترحيبًا كبيرًا من المملكة العربية السعودية، واهتمامًا واسعًا من المراقبين، حيث استقبلت مقاتلات سلاح الجو الملكي السعودي طائرة الرئيس الضيف بألوان العلم الصيني، كما حاول العديد من المحللين قراءة وتوقع احتمالات تأثير القمة العربية الصينية على العلاقات العربية الأمريكية خلال الفترة المقبلة. يذكر أن العالم العربي مجتمع لم يعقد لقاءات دولية قبل هذا التاريخ سوى عام 2019 الذي عُقدت فيه قمة عربية أوروبية جمعت الطرفين الأوروبي والعربي، وبالتالي يعد اجتماع العرب بالرئيس الصيني، هو اللقاء الثاني تاريخيًا، الذي جمع الأطراف العربية بطرف دولي قوي، وهو ما يعطى دلالة لأهمية القمة العربية الصينية، وما تكتسبه من زخم سياسي واقتصادي واستراتيجي، وخاصة أن قمة جدة للأمن والتنمية في يوليو 2022 اقتصرت على لقاء 9 دول عربية بالرئيس الأمريكي "بايدن"، هم دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق.
سياق الزيارة:
تأتي زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى منطقة الشرق الأوسط في أول رحلة خارجية منذ توليه ولاية ثالثة أمينًا عامًا للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر الماضي، وعكس أهمية الزيارة للجانبين الصيني والسعودي وكذلك الدول العربية، عبر مقال له في جريدة "الرياض" السعودية يوم الخميس الماضي، 8 ديسمبر الجاري:
(*) صداقة حضارية عميقة الجذور: استجمع الرئيس الصيني مفردات احترام وتقدير الثقافة العربية وتوجيه رسالته إلى شعوب المنطقة، انطلاقًا من الروابط التاريخية وتبادل العلوم والمعارف بين الحضارتين العربية والصينية مع الإشارة إلى مقولة منسوبة للنبي الكريم "أطلبوا العلم ولو في الصين"، وصولًا لنموذج العلاقات الاستراتيجية المتنامية بين الجانبين على المستويين الوطني والإقليمي، حيث ذكر البُعد الحضاري في نحو 10 مواضع، تطرق في اثنين منها إلى نبذ الصراع الحضاري، في إشارة خفية لأطروحات أكاديمية وسياسية أمريكية. واستخدم مفردة التاريخ بأكثر من صيغة في 12 موضعًا، كما وصف العلاقات بين الصين من جهة والمملكة ومجلس التعاون والدول العربية من جهة أخرى بالعمق في نحو 6 مواضع، وأكد على روابط الصداقة في أكثر من 10 كلمات، منها كلمتان لوصف علاقة بلاده مع المملكة العربية السعودية.
وفي استعراض واقع ومستقبل العلاقات العربية الصينية، أبرز الرئيس "شي" الطبيعة المتكافئة لتلك الروابط، مركزًا على التعاون في أكثر من 20 موضعًا، و"التنمية" بنحو 11 كلمة، وذكر كلمة "الدعم" في نحو 10 مواضع، واصفًا جميع تلك الروابط وذلك التعاون بـ"المتبادل" و"المشترك" في 9 مواضع لكل منهما، وتناول سُبل تطويرها في سياق عالمي متغير، مستخدمًا كلمة المستقبل بشكل مباشر في 5 مواضع، وكلمة "الجديد" في نحو 7 مواضع، ومنها أشار لما أسماه بـ"عصر جديد" في 4 مواضع.
(*) تعددية أبعاد الشراكة: تدرك القيادة الصينية تطلع الدول العربية للحفاظ على النظام الدولي متعدد الأطراف ودورها الفاعل في المحافل الأممية والدولية بعيدًا عن تجاذبات الأقطاب الدولية، ومن ثمَّ تسعى لتعميق الشراكة مع الجانب العربي كمجموعة دولية متجانسة المصالح والأهداف، ومساعيها الحثيثة للحفاظ على السلام العالمي، ومن هنا برز التعاون بين الصين والدول العربية في المجالات الثقافية والفكرية عبر إنشاء 20 معهدًا وفصلين لكونفوشيوس في المنطقة، مقابل تدريس اللغة العربية في 40 جامعة صينية.
وأبرزت بكين اهتمامًا بانضمام الدول العربية إلى مبادرة الحزام والطريق ومبادرتيها الجديدتين "التنمية العالمية" و"الأمن العالمي" اللتين تمزجان بين الأبعاد السياسية والأمنية والتنموية وتمثل طموح الصين كقوة مراجعة تسعى لإعادة صياغة قواعد العمل الدولي وتحيّد من خلاله الضغوط والتدخلات في شئونها الداخلية، مستفيدة من نقمة الدول العربية على التدخلات في شؤونها بدعوى حماية حقوق الإنسان.
هذا التلاقي ظهر في صك الرئيس الصيني مجموعة من القيم الإنسانية المشتركة التي تعد محل إجماع من قادة دول المنطقة وتتمثل في العدالة والإنصاف والسلام والحرية والديمقراطية.
(*) مواءمة وتشابك النماذج التنموية: مثلت القمم الثنائية حقلًا لتقديم النموذج التنموي الصيني ومشروعه العالمي لربط العالم باقتصاد بكين عبر شبكة من مشروعات البنية التحتية والطاقة في إطار مبادرة الحزام والطريق، وهو ما تمثل في المواءمة بين مبادرة الصين والرؤى التنموية الوطنية وعلى رأسها مصر 2030 ورؤية المملكة العربية السعودية 2030، في إطار مساعي القاهرة لتطوير المنطقة الاقتصادية لقناة السويس ومشروعات السكك الحديدية، وطموح الرياض للتحول إلى مركز إقليمي للشركات العالمية وحلقة وصل محورية في سلاسل الإمداد العالمية.
كما تمثل القمم المختلفة انطلاقة جديدة للتعاون الاقتصادي بين الجانبين العربي والصيني، يعزز اندماج قوى المنطقة في المنظمات التي تقودها الصين، وعلى رأسها تكتل بريكس الاقتصادي والاهتمام المتبادل بانضمام مصر والسعودية في أي توسيع مستقبلي، بالتوازي مع انضمام مصر والسعودية وقطر كشركاء حوار لمنظمة شنجهاي للتعاون، وتطلع الكويت والإمارات والبحرين لنيل تلك الصفة.
خطة عمل طموحة:
حددت رسالة الرئيس الصيني مجالات التعاون العربية الصينية لخدمة "السلام والتنمية" على المستويين الإقليمي والدولي في مجالات (التنمية والتنمية الخضراء والأمن الغذائي والصحة، والأمن والاستقرار، وأمن الطاقة، وتأهيل الشباب، وحوار الحضارات)، والتي يمكن استعراضها على النحو التالي:
(*) أمن الطاقة: تلاقت مساعي دول الخليج العربي والصين في مجال أمن الطاقة على أساس المصالح المتبادلة ببناء إطار "جديد" للتعاون شامل الأبعاد في مجال الطاقة، وعلى رأسها موارد الوقود الأحفوري، حيث أكدت الصين تعظيم وارداتها من النفط الخام والغاز المسال الخليجيين وترقية التعاون عبر الاستفادة القصوى من بورصة شنجهاي للبترول والغاز الطبيعي "كمنصة لتسوية التجارة النفطية باليوان الصيني"، كما يشمل كذلك التعاون في توطين صناعة المعدات اللازمة للإنتاج في قطاع الطاقة. وتضمن التعاون في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية وتدريب 300 من الكوادر السعودية والخليجية في هذا المجال.
(*) مجالات واعدة للشراكة: وتشمل الاستثمارات المشتركة في مجالات الطاقة الجديدة والذكاء الاصطناعي والتعاون المالي الرقمي والتبادل التجاري مع دول الخليج بالعملات المحلية من خلال نظام التسوية عبر الحدود "CIPS" وهو البديل الصيني لنظام سويفت للمعاملات المالية، كما تناولت فرص العمل التكنولوجي المشترك في تدشين مراكز الحوسبة السحابية، وتعزيز "البنية التحتية الفضائية" وتأهيل الكوادر من رواد الفضاء الخليجيين، وبحث إنشاء مركز خليجي صيني لاستكشاف القمر والفضاء العميق.
(*) القضايا السياسية والأمنية: برزت القضية الفلسطينية وتايوان على رأس الملفات موضع الاتفاق بين الزعماء العرب ونظيرهم الصيني، بجانب إبداء التضامن والدعم المتبادل في حماية سيادة كل دولة والحفاظ على وحدة أراضيها، كما أعاد الرئيس شي جين بينج طرح رؤيته ببناء منظومة للأمن الجماعي في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط عمومًا ودعم جهود حل الأزمات في المنطقة سلميًا، في إطار مبادرة الأمن العالمي التي أطلقها في أبريل الماضي وترتكز على عدة مبادئ أهمها "التمسك بمفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام".
مكتسبات الزيارة:
سعت الصين لترسيخ وجودها في منطقة الشرق الأوسط على أساس الشراكة وتعزيز الدعم المتبادل بين الصين والدول العربية بمنظماتها الإقليمية الرئيسية (كجامعة الدول العربية) والفرعية (كمجلس التعاون لدول الخليج) كجزء من إطار أوسع للتعاون الشامل، في مشهد لا يمكن تجنب المقارنة بينه وبين مشهد زيارة الرئيس الأمريكي لجدة السعودية منتصف يوليو 2022، إذ تمثل الزيارتان أحدث فصول التنافس على النفوذ في الشرق الأوسط بآليات مختلفة، وهو ما التقطته دول المنطقة لخدمة مصالحها الوطنية وتجنب الوقوف خلف أي طرف في مواجهة الطرف الآخر.
وخلافًا لنهج واشنطن التي ترتبط بعلاقات أوثق مع دول المنطقة في البعد الأمني وباتت أكثر تركيزًا على مواجهة خصومها الدوليين من دعمها للشراكة مع حلفائها الإقليميين، اقتربت بكين من الدول العربية على جميع المستويات الوطنية والإقليمية لترتيب أولويات التعاون وفق الإمكانيات المتاحة وللحصول على تأييدها الثابت بأمن الصين ووحدتها وفق مبدأ "الصين الواحدة" أو ما يُعرف بـ"دولة واحدة ونظامين" عن طريق دعم سياستها في هونج كونج ورفض استقلال تايوان.
ولعل ما يفسر ذلك النص الواضح في البيان السعودي الصيني على إعطاء أولوية لعلاقات البلدين في علاقاتهما الخارجية، والتقارب المنتظر بين الجانبين مع إقرار دورية لقاءات زعماء البلدين كل عامين، مما يعزز مكانة الصين كأبرز شريك تنموي للمملكة ودول الخليج بصفة خاصة وتعزيز التعاون وتنسيق المواقف الدولية بينها وبين الدول العربية الرئيسية.
وختامًا؛ تمثل الزيارة بدون شك علامة فارقة في مسيرة التعاون العربي الصيني الممتدة منذ 2004 في إطار منتدى التعاون العربي الصيني، لكنها تأتي في إطار تطلع الجانبين لدعم اقتصاداتهم في مرحلة حرجة يمر بها الاقتصاد العالمي، وشواغل سياسية وأمنية متبادلة لا تعكس اتجاه الدول العربية لملء الفراغ الأمريكي بالصين، بقدر ما تعكس حيوية العلاقات العربية الصينية وتعدد أبعادها السياسية والاقتصادية والحضارية. ومن المهم البناء على هذا الزخم والحوار الممتد لتطبيق الوعود ببناء علاقات متوازنة ومنافع متبادلة تؤمن لدول المنطقة دورها الحيوي على الساحة الدولية وتحفظ مصالحها الأمنية والاقتصادية والتجارية ولا تكون بوابة لتحول العالم العربي إلى سوق مفتوحة للصادرات الصينية.