قد يكون من الصعب على مطالعي الصحف والأحداث العالمية التصديق بأن ثمَّة محاولة انقلاب على النظام السياسي الألماني الذي تأسست لبناته على ضرورة بناء القيم المدنية، وتجاوز مآسي الحربين العالميتين اللتين بدأت شرارتهما من ألمانيا، وراح ضحيتهما زهاء الـ 80 مليون إنسان بالإضافة إلى الملايين من المصابين. ويُمثل انتشار اتجاه اليمين في ألمانيا تحديًا لمآلات الحرب العالمية الثانية نفسها، والتي أسست لضرورة إدماج ألمانيا في منظومة القيم الغربية التي تتزعمها واشنطن. نعمل في هذا التقرير على التعريف بماهيّة حركة "مواطني الرايخ"، وسماتها، وخططها، والسياسات الحكومية تجاه ذلك.
مجموعة "مواطني الرايخ": الماهيَّة والأهداف
بدأت الحركة في الثمانينيّات، ويُعتقد أنها تضم حوالي 20 ألفًا داخل ألمانيا، وصنفت السلطات الألمانية على الأقل 950 من أعضائها كمتطرفين، فيما يحمل 1000 عضو تقريبًا رخصة حيازة السلاح. ويُتهم أعضاؤها بعداء الأجانب والسامية. ويجمع أعضاء حركة "مواطني الرايخ" مجموعة من السمات المشتركة، التي نحاول إبرازها فيما يلي:
(*) رفض نموذج الدولة الألمانية الحديثة: تُعرف حركة "مواطني الرايخ" بعدائها للدولة الألمانية الحديثة، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية. ويعتبر أنصار هذه الحركة أن الإمبراطورية الألمانية لا تزال قائمة بحدود عام 1937، وبالتالي يعملون على تأسيس الرايخ الرابع بعد أن هُزم الرايخ الثالث الذي أسس له الزعيم النازي "أدولف هتلر". وترى مجموعة الرايخ الرابع أن ألمانيا لا تزال محتلة من الدول الأجنبية لا سيما أنه غير مسموح لها بتشكيل جيش قوي قادر على الدفاع عن أوروبا، فضلًا عن استمرار تواجد القوات الأمريكية وعلى الأراضي الألمانية. جدير بالذكر أن واشنطن لديها أكبر قاعدة عسكرية خارج حدودها في ألمانيا، ويأتي الانتشار العسكري الأمريكي في ألمانيا كمخرج لاتفاقية "وجود القوات الأجنبية في جمهورية ألمانيا الاتحادية"، التي وُقعت عام 1954، ويُقدَّر عدد هذه القوات حاليًا بـ 35000 بعد أن كان 400 ألف قبل سقوط الاتحاد السوفيتي في ديسمبر عام 1991. ويتهم أنصار الحركة الحكومة الألمانية بالخضوع للإملاءات الخارجية معتبرين الحكومة الألمانية بمثابة الدُمية في يد هذه القوى.
(*) الإمبراطورية المتخيلة: يؤسس أعضاء المجموعة لما يُمكن أن يُطلق عليه الإمبراطورية الألمانية المُتخيلة؛ حيث يرفضون حمل الوثائق الثبوتية التي تُعبر عن ألمانيا الحديثة، ويحملون جوازات السفر وبطاقات الهوية ورخص القيادة الخاصة بهم والمدون عليها الرايخ الألماني، والتي تعبر عن أمجاد الإمبراطورية الألمانية وحدودها الشاسعة الممتدة. بالإضافة إلى ذلك، يرفض أعضاء الحركة دفع الضرائب والغرامات، ويصرون على إبعاد ممتلكاتهم الخاصة عن سلطة الدولة الألمانية الحديثة. ويعود تأسيس الحركة إلى أمير ألماني سابق يُطلق عليه هاينريش الثالث عشر أمير رويس (71 عامًا)، والذي تنصلت منه عائلته بسبب تمسكه بنظريات المؤامرة.
(*) مؤامرة عابرة للحدود: تتهم السلطات الألمانية روسيا بالوقوف وراء دعم أعضاء الحركة الذين ظهر بعضهم، وفي خلفيتهم العلم الروسي، وهو الأمر الذي دعا الكرملين والسفارة الروسية بنفي هذه الاتهامات. واعتبرت موسكو على لسان الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن عمليات التوقيف "قضية ألمانية داخلية". وقد ألقت قوات الأمن الألمانية القبض على 27 مشتبهًا به، بينهم إيطالي ونمساوي، وامتد أمر التوقيف إلى خارج الحدود الألمانية؛ حيث اُعتقل شخص في بلدة كيتزبويهيل النمساوية وآخر في مدينة بيروجيا الإيطالية، وهو ما يُظهر البُعد القومي الجامع لأعضاء الحركة.
(*) استخدام العنف: يجمع المتهمون رفضهم العميق لمؤسسات الدولة الألمانية الحديثة، واتهمت السلطات الألمانية أعضاء الحركة بالتخطيط لاستخدام العنف للاعتداء على مؤسسات الدولة وممثليها، وذلك وفق تدوينة لوزير العدل الألماني، ماركو بوشمان.
(*) رفض الانتخابات: تُشير التقارير إلى سأم اليمين الألماني من الانتخابات؛ حيث لم يضمن لهم الصندوق الوصول للسلطة بطرق سلمية، وهو ما جعل بعض أعضاء هذا اليمين يفكرون في استخدام العنف للوصول إلى السلطة وتحقيق أهدافهم.
(*) الضيق من السياسات الأمريكية تجاه أوروبا: أثبتت بيانات الادعاء العام الألماني عن مجموعة "مواطني الرايخ" عن وجود اتجاه أوروبي عام وألماني على وجه الخصوص بالضيق من السياسة الأمريكية، لا سيما بعد أدائها الذي يعتبرونه سلبيًا في الحرب الروسية الأوكرانية، ولا يخفى على أحد أن كثير من الأوروبيين يتهمون واشنطن بتوريطهم في هذه الحرب باعتبار أنها الرابح الأكبر؛ حيث تُصدر لهم الطاقة بأسعار تتجاوز الأسعار التي كانت توفرها لهم موسكو بكثير، وتأكدت هذه السياسة لديهم بعد بتراجع العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) أمام الدولار، وهي سابقة تاريخية، وكذلك حالة الركود وتراجع إمدادات الطاقة والغذاء التاريخية التي تمر بها الاقتصادات الأوروبية الكبرى.
استراتيجيَّات المواجهة:
تابعت الحكومة الألمانية أنشطة مجموعة "مواطني الرايخ" بجديَّة منذ عام 2017؛ حيث برزت ملامح التطرف على منتسبي هذه المجموعة، ومن أبرز هذه الإجراءات:
(*) توثيق الجرائم: تمكنت السلطات الأمنية من توثيق الجرائم التي ارتكبها أعضاء المجموعة مثل مقتل ضابط ألماني من قِبل أحد أعضاء المجموعة، وارتباط أعضاء المجموعة بمجموعات اليمين المتورطة في العديد من الجرائم الإرهابية ومعاداة الأجانب مثل حركة "الوطنيين المتحدين". وكان لهذه الاستراتيجية الفضل في تتبع أنشطة أعضاء الحركة وتصنيفهم وحصرهم، وتحديد أماكن انتشارهم.
(*) المحاكمات القانونية: أبرزت المخططات التي كشفت عنها السلطات الألمانية عن مجموعة من الإجراءات القضائية التي قامت بها الحكومة الاتحادية ضد أنشطة الحركة، في هذا السياق قضت محكمة مدينة نورنبرج بالسجن مدى الحياة في أكتوبر 2017على أحد أعضاء المجموعة الذي رفض إجراء السلطات الأمنية بتفتيش منزله بحثًا عن الأسلحة والذخيرة.
(*) التنسيق الخارجي: يبدو من بيان السلطات الألمانية عن مؤامرة الحركة على ليبرالية الدولة الألمانية الحديثة حجم التنسيق الخارجي؛ حيث تزامن التحرك الألماني لتوقيف عددٍ من المشتبه بهم في المخطط مع تحركات مماثلة في كلٍ من النمسا وإيطاليا.
(*) الرصد والتتبع: وفقًا للسلطات الألمانية، فإن خطة الانقلاب على الحكومة الاتحادية كانت ستبدأ بالسيطرة على منطقة الإذاعة والتلفزيون في الحي الحكومي. وكشفت تحقيقات للادعاء العام أن أعضاء الحركة على صلة بمجموعةٍ من "الوطنيين المتحدين" الذين تم اعتقالهم في أبريل الماضي على خلفية اتهامات تتعلق بخطف وزير الصحة الألماني كارل لاوترباخ. وكان الادعاء قد كشف كذلك عن وجود مخطط لتأسيس جناح عسكري ليكون نواة لجيش ألماني جديد.
(*) إجراءات التدقيق الأمني: رغم عدم تأكيد السلطات الألمانية لإجراءات تفتيش الثكنات العسكرية التي نقلتها مختلف الوسائل الإعلامية إلا أن هناك مجموعة من الأنباء تفيد بوجود تفتيش لعددٍ من الثكنات العسكرية بعد رصد الاستخبارات الألمانية لاتصالات بين أعضاء الحركة ومجموعة من الجنود في الجيش الألماني، وذلك لاعتقاد السلطات بعمل المجموعة على تجنيد ضباط شرطة في شمال ألمانيا ومراقبة ثكنات الجيش لاستخدامها بعد الإطاحة بالحكومة.
(*) الحشد الأمني الكبير: حشدت السلطات الألمانية لأكثر من 3000 عنصر من قوات الأمن من بينهم عناصر من وحدات النخبة لمكافحة الإرهاب لاستهداف أبرز عناصر حركة "مواطني الرايخ"، وقاموا بمداهمة وتفتيش 130 عقارًا، وهو ما اعتبرته وسائل الإعلام الألمانية بأنها واحدة من أكبر عمليَّات الشرطة التي شهدتها البلاد. ومن بين أبرز أعضاء التنظيم الموقوفين عضوة سابقة في البرلمان الألماني (البوندستاج) عن حزب البديل اليميني، وكانت تعمل وقت توقيفها قاضية في محكمة ببرلين، وأوقفت السلطات ضابطا سابقا في الجيش الألماني.
(*) تنسيق استخباري واسع: أشارت التقارير إلى مشاركة الاستخبارات العسكرية الألمانية في التحقيقات التي أجراها المدعي العام الألماني، وشارك مكتب المدعي العام التقارير مع مكتب حماية الدستور (الاستخبارات الداخلية)، وكذلك المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية، وهو ما يبرز خطورة هذا المخطط الذي استوجب تنسيقًا واسعًا مع كافة الأجهزة الأمنية الألمانية.
في النهاية، رغم سيطرة السلطات الألمانية على المحاولة الانقلابية التي كانت تخطط لها مجموعة "مواطني الرايخ" إلا أن هذه الحادثة لن تغيب عن الأذهان الأوروبية خاصة مع انتشار ظاهرة اليمين، واكتسابها شعبية كبيرة في الشارع، وهو ما دعا إلى ظهور مجموعات مختلفة من التحليلات التي تركز على مخاطر اليمين الشعبوي وانعكاسات ذلك السلبية على نموذج الديمقراطية الليبرالية التي يعتبرها الغرب أفضل ما وصلوا له.