تُعاني دولة الاحتلال الإسرائيلي حتى اللحظة الحالية من الآثار المُدمرة الناتجة عن أضخم فشل استخباراتي وعملياتي في تاريخها البالغ 75 عامًا، انهار الافتراض الذي طالما روته إسرائيل بأن "الأسوار الذكية، والتدفق السخي للأموال الأجنبية من شأنه إبقاء حماس تحت السيطرة"؛ بعد أن تسبب هجوم السابع من أكتوبر في سقوط قتلى بأعداد كبيرة، نحو 1200 قتيل وآلاف الجرحى، إلى جانب أسر نحو 240 شخصًا وأخذهم كرهائن داخل قطاع غزة، وهو ما شكل صدمة وطنية داخل إسرائيل في المستقبل المنظور.
في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، أعلنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، تعبئة طارئة لقواتها، مع التزام رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بإنهاء الحرب بعد تحقيق أهدافها، التي تتواصل لما يقرب من 3 أشهر، بلا هوادة، بعد توقف قصير أواخر نوفمبر، في هدنة إنسانية استمرت نحو أسبوع تم خلالها إطلاق سراح 105 من المدنيين من الأسرى.
هدف عملية "السيوف الحديدة"، أعلنه "نتنياهو" بوضوح في بداية الحملة، وهو القضاء على حماس واستعادة جميع الأسرى المختطفين، والتأكد من عدم تمكن حماس من تهديد إسرائيل مرة أخرى، إلا أن الجدول الزمني لتحقيق هذه الأهداف لا يزال غامضًا، وكذا الخطوط العريضة لنهاية مُحتملة للحرب في غزة، بحسب "فورين أفيرز".
وأشارت الصحيفة، إلى أن حرية إسرائيل في متابعة هذه الأهداف، ستكون مقيدة إلى حد كبير، لولا دعم الولايات المتحدة، إلا أنه ومع استمرار القتال تظهر الفجوات بين الموقف الأمريكي والإسرائيلي، ومع ذلك فإن لدى إسرائيل أسبابًا قوية للحفاظ على تحالفها الأساسي "سليمًا".
ويُشير التقرير، إلى أن إسرائيل لكي تضمن بقاء هذا التحالف سليمًا، عليها ليس فقط إدارة الحرب بحكمة، بل أيضًا معالجة المشاكل السياسية الداخلية وأن تحدد كيف تخطط تسوية الصراع مع الفلسطينيين.
بداية صعبة
الفصل الحالي من العلاقة المستمرة منذ عقود بين نتنياهو الذي عاد لمهامه كرئيس لوزراء إسرائيل في ديسمبر الماضي، وجو بايدن، بدأ بداية صعبة، إذ انتظر أربعة أسابيع بعد تنصيبه قبل أن يتصل بالزعيم الإسرائيلي، فيما اعتبره الكثيرون بمثابة رد على مماطلة نتنياهو في تهنئة بايدن على هزيمة الرئيس دونالد ترامب في عام 2020. (عندما اتصل "نتنياهو" أخيرًا بـ"بايدن"، انتقد "ترامب" رئيس الوزراء؛ لأنه أظهر عدم الولاء).
ولم تخف إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، استياءها من اختيار نتنياهو لشركاء الائتلاف من اليمين المتطرف في إسرائيل، وأبرزهم وزير الأمن القومي، إيتمار بن جفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريش، ووعدوا بمحاسبة نتنياهو شخصيًا على تصرفات حكومته، وفي يناير 2023 نفذت أمريكا هذا التعهد عندما صعد بن جفير إلى جبل الهيكل، وهو موقع ديني حساس، خلال أيامه الأولى في منصبه، وهي خطوة أدانها المسؤولون الأمريكيون بشدة، وتجنبوا التعامل المباشر معه، لتتصاعد التوترات مجددًا في وقت لاحق من الأسبوع نفسه، بسبب وزير العدل، ياريف ليفين، الذي كشف عن خطط مثيرة للجدل لإجراء إصلاح جذري للنظام القضائي الإسرائيلي.
بحسب التقرير كانت تداعيات الانفصال الواضح بين الحكومتين، محركة لنتنياهو بشكل خاص، بعد أن تُرك ينتظر بجوار صندوق بريد لتلقي دعوة لزيارة البيت الأبيض، ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي منذ أكثر من 50 عامًا يُحرم من عقد اجتماع في المكتب البيضاوي خلال السنة الأولى من ولايته.
وتطرق التقرير إلى معاملة "سموتريش" كشخص غير مرغوب فيه، عندما زار واشنطن في مارس، إذ تم تجنبه هو ووزير الأمن القومي المتطرف، إيتمار بن جفير، من قبل وفد الكونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى إسرائيل وتم استبعادهما، من قائمة الضيوف لحضور حفل الاستقبال السنوي في الرابع من يوليو الذي استضافته السفارة الأمريكية في القدس.
أحداث 7 أكتوبر
إلا أن أحداث السابع من أكتوبر، والتعاطف مع إسرائيل طغت على الخلافات العالقة، إذ وعد بايدن الذي وصل إلى إسرائيل في 18 أكتوبر، كأول رئيس أمريكي على الإطلاق يزور البلاد وسط حرب، الإسرائيليين بالوقوف بجانبهم، قائلًا: "سنسير إلى جانبكم في تلك الأيام المظلمة، و في الأيام الجيدة القادمة".
وحافظت أمريكا على دعم عمليات جيش الاحتلال في غزة، وعندما سئل وزير الخارجية الأمريكي في 10 ديسمبر الجاري، عن الموعد الذي يتوقع أن ينهي فيه جيش الاحتلال حملته العسكرية، قال: "هذه قرارات على إسرائيل أن تتخذها".
واستخدمت أمريكا حق النقض في 8 ديسمبر، ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وقال نائب السفير الأمريكي إن وقف إطلاق النار "لن يؤدي إلا إلى زرع بذور الحرب القادمة؛ لأن حماس ليست لديها الرغبة في رؤية اتفاق سلام دائم".
وأصدرت أمريكا عدة تحذيرات، حول حماية المدنيين الفلسطينيين، منها تأكيد وزير الدفاع لويد أوستن، في 2 ديسمبر على أن "حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة هي واجب أخلاقي وضرورة استراتيجية"، إلا أن مثل هذه التعليقات لم تخفف من التأثير الإجمالي لسياسة أمريكا التي -كما أكد أوستن أيضًا- تدعم "حق إسرائيل الأساسي في الدفاع عن نفسها".
في العلن فضل بايدن احتضان إسرائيل، فيما نقل تحفظات الولايات المتحدة في محادثات خاصة مع قادة الاحتلال، مُعتقدًا أن هذه الاستراتيجية تمنحه تأثيرًا أكبر على حسابات إسرائيل مقارنة بنهج المواجهة، إذ أسفرت مناشداته عن بعض النتائج، منها مثلًا إقناع إسرائيل بإلغاء خطط توجيه ضربة وقائية ضد حزب الله في لبنان في الأيام الأولى بعد هجوم السابع من أكتوبر، بحسب تقرير "فورين أفيرز".
ويشير المتشككون في أساليب "بايدن" إلى حجم الدمار الذي ألحقه جيش الدفاع الإسرائيلي بغزة، على الرغم من الجهود التي تبذلها الدبلوماسية الأمريكية خلف الكواليس، لكن الولايات المتحدة تتصرف أيضًا بناءً على مصلحتها الخاصة في نجاح إسرائيل في هزيمة حماس، التي صنفتها واشنطن على أنها منظمة إرهابية، وفي كلتا الحالتين، استفادت إسرائيل بشكل كبير من صداقة حليفتها.
علاقة إسرائيل والولايات المتحدة
تطرق التقرير إلى ارتباط الولايات المتحدة بإسرائيل تدريجيًا منذ اعتراف الرئيس، هاري ترومان، بالدولة اليهودية، في 14 مايو 1948، إلا أن واشنطن لم تبدأ في تقديم المعدات العسكرية لإسرائيل إلا في الستينيات، في عهد الرئيس جون كينيدي.
وفي رسالة عام 1982، كان أول تعهد أمريكي صريح بالحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، على منافسيها، من الرئيس رونالد ريجان إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن.
ورغم أن التعاون الأمريكي الإسرائيلي، بدا مضطربًا في بعض الأحيان، حافظ على مسار تصاعدي ثابت، إذ عزز الدعم الأمريكي موقف إسرائيل في منطقة مضطربة.
كما اعترف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبمرتفعات الجولان السورية أرضًا إسرائيلية ذات سيادة، لترسل أفعاله رسالة حول الدعم الأمريكي لإسرائيل.
وأرسلت أمريكا عدة جسور جوية من القنابل والذخائر الأخرى، إلى إسرائيل لاستبدال مخزوناتها المستنفدة، كما تدخلت واشنطن لمنع قرارات مجلس الأمن الدولي التي من شأنها فرض عقوبات على إسرائيل أو الإصرار على أن ينهي الجيش الإسرائيلي مهمته في غزة، وطالبت الدول الأخرى بإدانة أعمال العنف من جانب مقاتلي حماس.
وفي 10 أكتوبر، حذر "بايدن" أعداء إسرائيل من الانضمام إلى حماس، وقال: "إلى أي بلد، وأي منظمة، وأي شخص يفكر في الاستفادة من هذا الوضع، لديّ كلمة واحدة: لا تفعل ذلك".
ومع استمرار القتال في غزة، مارست أمريكا ضغوطًا لصالح وقفات إنسانية تكتيكية، كما حدث خلال هدنة أواخر نوفمبر، إذ رضخت إسرائيل من أجل تسهيل إطلاق صراح الرهائن، وبحسب التقرير أجبرت اعتراضات بايدن على القصف العشوائي وأعداد الضحايا من المدنيين جيش الاحتلال على إعادة معايرة هجمات الجيش، يزعم بعض القادة الإسرائيليين أنه أطال مدته وعرّض الجنود الإسرائيليين لخطر مُتزايد.
وكان الغطاء المادي والسياسي الذي توفره الولايات المتحدة ضروريًا أيضًا لقدرة إسرائيل على استعادة قدرتها على الردع المفقودة بعد كارثة 7 أكتوبر، وقال بلينكن في رسالة إلى الشعب الإسرائيلي في 12 أكتوبر "يجب أن أفعل ذلك على الإطلاق".
وبحسب التقرير فإن التوازن الدقيق الذي قدمه الوزير بين التحقق من قدرات إسرائيل المستقلة وإعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة برفاهيتها، يوضح السبب وراء عدم قدرة إسرائيل على تحمل خسارة أفضل صديق لها.
لكن هذا لا يعني أن تلك العلاقة كانت خالية من المشاكل، ففي 2017 كشف ترامب عن معلومات استخباراتية إسرائيلية لروسيا، واتهم اليهود الأمريكيين بأنهم غير موالين للشعب الإسرائيلي.
لا ضمانات
لقد كان الإسرائيليون دائمًا يعزون الدعم الأمريكي القوي لبلادهم إلى مجموعة من القيم المشتركة -بما في ذلك الحرية والتعددية والديمقراطية- والمصالح، مثل تعزيز السلام والاستقرار، وقد بدأت هذه الأرضية تتغير الآن، خاصة أن الأمريكيين الأصغر سنًا يعبرون عن قدرٍ أقل من الانجذاب تجاه إسرائيل مُقارنة بالأجيال الأكبر سنًا.
يُشير التقرير إلى أنه ربما يكون جو بايدن -الذي أكد في كثير من الأحيان أنه "ليس من الضروري أن تكون يهوديًا لكي تكون صهيونيًا"- آخر رئيس ديمقراطي يتمتع بأوراق اعتماد مؤيدة لإسرائيل لا تشوبها شائبة.
وينبغي أن يُقلق هذا الاتجاه إسرائيل، إذ إنه ليس لديها بديل لأمريكا، فالتحوط في رهاناتها، كما فعلت دول أخرى في الشرق الأوسط، ببناء علاقات مع الصين وروسيا، العضوين الدائمين في مجلس الأمن، ليس خيارًا بالنسبة لإسرائيل، وأخيرًا حتى بايدن نفسه بدأ في ضبط تصريحاته، إذ قال في خطاب ألقاه في 12 ديسمبر إن "أمن إسرائيل يمكن أن يعتمد على الولايات المتحدة"، لكنه أضاف أن إسرائيل بدأت تفقد دعمها في أجزاء أخرى من العالم.
ويُشير التقرير إلى أنه بدلًا من محاولة تقريب وجهات النظر بين واشنطن وتل أبيب، ربما يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى إثارة خلاف مع واشنطن؛ من أجل تحسين فرص عمله مع انخفاض معدلات تأييده، إذ قال أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست في 11 ديسمبر أن "رئيس الوزراء الذي لا يستطيع تحمل الضغوط الأمريكية لا ينبغي له أن يدخل مكتبه".
آخر ما تحتاج إليه إسرائيل
وبحسب التقرير فإن الانخراط في مشاجرات علنية مع الولايات المتحدة، هو آخر ما تحتاج إليه إسرائيل الآن، ولتجنب مستقبل تضطر فيه إسرائيل إلى مقاومة المخاطر الوجودية دون اللجوء إلى الترسانات العسكرية الأمريكية أو استخدام حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يجب على صناع السياسات الإسرائيليين تغيير مسارهم.
ومع استمرار الحرب على قطاع غزة، يجب على جيش الاحتلال أن يسعى لتحقيق أهدافه، في أسرع وقت ممكن مع تقليل الأضرار الجانبية والإصابات في صفوف المدنيين، إضافة إلى ضرورة الاستمرار في تنفيذ البروتوكولات الأخلاقية للقتال.
يُضيف التقرير أن إظهار الاحترافية والنزاهة، من شأنه أن يساعد إسرائيل على تجنب تكرار حرب عام 2006 في لبنان، عندما دفع غياب النصر الإسرائيلي الواضح الرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش، إلى استنتاج مفاده أن إسرائيل "أساءت استغلال الفرصة" لتوجيه ضربة حاسمة ضد حزب الله.
يضيف التقرير، أن إسرائيل بحاجة ماسة إلى إعطاء الأولوية للأمن القومي على السياسة، فالميزانية التكميلية لعام 2023 التي تم إقرارها في 14 ديسمبر، والتي كان من المفترض أن تغطي النفقات غير المتوقعة للحرب في غزة، حولت الأموال الثمينة إلى بيروقراطيات غير ذات صلة - بما في ذلك وزارة القدس والتراث ووزارة الاستيطان والبعثات الوطنية- لإرضاء الدوائر الانتخابية الرئيسية، بدلًا من ائتلاف نتنياهو.
وأضاف التقرير أن هناك قلقًا واسع النطاق من أن ميزانية 2024 ستتبع نفس النمط من تخصيص الموارد للرعاية السياسية للأحزاب الدينية، في نفس الوقت الذي يُطلب فيه من الولايات المتحدة المساعدة في تعويض تكاليف الحرب.
وألغى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تصويتًا للحكومة للموافقة على تحويل عائدات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية، والسماح للعمال الفلسطينيين من الضفة الغربية بالعودة إلى العمل في إسرائيل؛ إذ يفضل مجلس الأمن القومي إجراء التوظيف، بموجب شروط معينة - لتجنب الاشتباك مع الوزراء المتشددين الذين يتسامح بشكل عام مع تصريحاتهم وأفعالهم التحريضية.
وأشار التقرير إلى أن استخدام نتنياهو للخطاب التحريضي لدعم نتائجه المتأخرة في استطلاعات الرأي، يؤدي إلى زرع الانقسام بينما يبكي الإسرائيليون موتاهم.
وتختتم "فورين أفيرز"، تقريرها بأن إسرائيل تحتاج بشكل عاجل إلى صياغة موقف واضح بشأن القضية الفلسطينية، عندما تم إنشاء دولة إسرائيل قبل 75 عامًا، كان عليها أن تحارب التهديدات التي تهدد بقاءها، واليوم، يتعين على حكام إسرائيل أن يعبروا عن رؤية متماسكة لوجهتها النهائية، وإلا فإنهم سوف يجدون صعوبة في إقناع الولايات المتحدة ودول أخرى بالبقاء إلى جانبها.
وسواء كانت إسرائيل تريد دولة واحدة، أو دولتين، أو أي شيء آخر، فيتعين على قادتها ومواطنيها أن يقرروا المسار الذي سيسلكونه قريبًا، ويجب عليهم أن يدركوا أيضًا أنه بغض النظر عن قرارهم -وهو القرار الذي يجب عليهم اتخاذه وحدهم- فستكون له عواقب ليس فقط على إسرائيل نفسها، بل أيضًا على علاقتها الأساسية مع الولايات المتحدة، إذ أصبحت الولايات المتحدة محبطة بما فيه الكفاية من السياسات الإسرائيلية؛ لدرجة أن واشنطن فرضت شروطًا على تقديم المساعدة العسكرية الأمريكية، فقد تجد إسرائيل بيئة عملها مقيدة بشكل كبير، واختتم التقرير، أن تحركات إسرائيل المقبلة قد تكون الفارق بين تعميق العنف والتقدم نحو السلام.