شنت فصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023 عملية نوعية أطلقت عليها "طوفان الأقصى"، استهدفت بشكل رئيسي المستعمرات الإسرائيلية المحاذية لغلاف قطاع غزة، حيث استخدمت فيها المقاومة تكتيكات ووسائل الحرب من هجوم مفاجئ وسريع ومُكثف مستخدمة أسلحة متنوعة، لاستهداف تلك المستوطنات، كما تجاوز عدد القتلى من الإسرائيليين 800 قتيل، فيما ارتفع عدد الجرحى إلى 2400 بينهم نحو 300 في حالة خطرة، كما أعلن جيش الاحتلال إطلاق عملية "السيوف الحديدية" ضد أهداف للفصائل في قطاع غزة. وفي ظل تصاعد المواجهات بين الجانبين ثمة تساؤل يدور حول حدود التكلفة السياسية لتلك العملية على الداخل الإسرائيلي، ومدى قدرة حكومة بنيامين نتنياهو على الاستمرار في تبنى توجهاتها اليمينية المتشددة إزاء القضية الفلسطينية، بعد النجاح الذي حققته حركات المقاومة الفلسطينية، والتحول إلى تنفيذ هجوم مباغت برًا وبحرًا وجوًا، وهو الأمر الذي كبد إسرائيل خسائر فادحة وأسقط نظرية الردع الإسرائيلي القائمة على امتلاك مصادر القوة.
تعنت إسرائيلي
جاء تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية وبرنامجها الذي تقدمت به إلى الكنيست، لتعكس توجهات يمينية متشددة إزاء القضية الفلسطينية، تجلى في سلوكها المتعنت ضد الفلسطينيين، بما مثل دوافع لحركات المقاومة الفلسطينية، لمواجهة تلك الاستفزازات والتي كان من أبرزها:
(*) دوامة العنف المستمر: أدت ممارسات الحكومة الإسرائيلية، وما قام به أعضاؤها الأكثر يمينية وتطرفًا إلى زيادة وتيرة العنف في الضفة الغربية مع قيام المستوطنين الإسرائيليين بأعمال شغب ضد الفلسطينيين، فضلًا عن تكرار اقتحام المسجد الأقصى ليس فقط من قبل المستوطنين الإسرائيليين، ولكن أيضًا من قبل وزراء في الحكومة الإسرائيلية، للدرجة التي دفعت وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن جفير، ليدعو بالسماح باقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى بالقدس الشرقية على مدار الساعة مع إمكانية صلاتهم فيه، فضلًا عن دعوته لتسليح المستوطنين الإسرائيليين.
وقد شكلت تلك الاستفزازات الإسرائيلية تصعيدًا تدريجيًا، دفع إلى التزايد المطرد في العمليات التي نفذها فلسطينيون داخل إسرائيل وخاصة في القدس، كما شكلت عمليات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتكررة داخل قطاع غزة، واستهداف عناصر من حركات المقاومة الفلسطينية وتصفيتهم واستهداف منازل كوادرهم وهدمها، فضلًا عن استهداف الأبنية والمنشآت وهدمها إلى تنامي مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام، لتأتي عملية "طوفان الأقصى" كنتاج لتلك الممارسات المتعجرفة.
(*) رفض مبدأ حل الدولتين: تتبنى الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة، وفقًا لمبدأ حل الدولتين، فضلًا عن رفض أية خطوات جادة لاستئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني على أية مرجعية، وهو ما عبر عنه نتنياهو بتصور لحل الصراع مع الفلسطينيين من خلال إيجاد كيان أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة على أجزاء لم يحددها من الضفة الغربية دون سيادة أو أمن. لذلك طالب رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية، في 8 أكتوبر 2023 بضرورة وقف العدوان الإسرائيلي، والوصول إلى أفق سياسي ينهي الاحتلال، وأن تنتهي المعاناة بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس وعودة اللاجئين.
(*) تزايد النشاط الاستيطاني: شكلت السياسات الاستيطانية أحد أبرز توجهات حكومة نتنياهو، وقد تزايد النشاط الاستيطاني بالتزامن مع تشكيل الحكومة اليمينية فقد اشترطت القوى المتحالفة مع حزب الليكود وضع برنامج قائم على استئناف سياسة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبشكل عام فقد تزايد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية خلال عام 2022 بما في ذلك شرق القدس ليصل إلى نحو 800 ألف مستوطن، موزعين على 176 مستوطنة، و186 بؤرة استيطانية. كما يتواجد في غلاف غزة نحو 50 مستوطنة، تقع في مسافة تبلغ 40 كيلومترًا في محيط القطاع ويقطنها ما يقرب من 37 ألف مستوطن. ويقدم اليمين المتطرف مبررات دينية لنزوح المستوطنين إلى الأراضي الفلسطينية باعتبار الإقامة في "يهودا والسامرة" وهو الاسم التوراتي للضفة الغربية، واجبًا دينيًا.
مآلات محتملة
شكلت عملية "طوفان الأقصى" نقطة تحول فارقة في أنماط المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين سيكون لها تأثيرها المباشر على مفردات المشهد السياسي في إسرائيل بشكل عام وعلى حكومة نتنياهو بالتحديد، وهو ما يتجسد في التالي:
(&) فشل نظريات الردع الإسرائيلي: نجحت عملية طوفان الأقصى في إثبات فشل نظريات الردع الإسرائيلي القائمة على امتلاك القوة وتوظيفها ضد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولاشك أن عمليات الهلع التي أُصيب بها قاطنو المستوطنات الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة، بعد دخول مقاتلي حركات المقاومة الفلسطينية إلى منازلهم وأسر عدد منهم، وكذلك أسر عدد من الجنود وعدد من كبار الضباط الإسرائيليين، فضلًا عمّا أعلنته إسرائيل عن مقتل ياهوناتان شتينبرج، وهو قائد لواء ناحال للقوات الخاصة الإسرائيلية، سيكون لها مردودها السياسي على الشارع الإسرائيلي، الذي من المرجح أن يطالب بمحاسبة الحكومة الحالية وعزلها على أقل تقدير بعد الخسائر التي منيت بها في ظل الإخفاق الاستخباراتي في توقع مثل تلك العملية النوعية.
(&) تصدع تحالف الليكود: من المحتمل أن تسهم عملية "طوفان الأقصى" في تصدع تحالف الليكود والقوى اليمينة التي شاركت في تشكيل الحكومة التي منحها الكنيست الإسرائيلي الثقة في 29 ديسمبر 2022 بأغلبية 63 نائبًا مقابل معارضة 54 نائبًا. وقد جاء تشكيل حكومة نتنياهو من ائتلاف هش من أحزاب يمينية أبرزها: الليكود، وشاس، والصهيونية الدينية، والقوة اليهودية، ونوعام، وهو الائتلاف الذي فشل في تحقيق الأمن من خلال تبني سياسات متشددة، بما يعني أن مستقبل التحالف أضحى على المحك، وأن تأزم الوضع بعد موافقة المجلس السياسي الأمني المصغر إعلان حالة الحرب -بما يعنى إعلان حالة الطوارئ داخل البلاد- ووضع كل إمكاناتها تحت تصرف الجيش لتحقيق أهدافه، هذا الواقع المعقد سيزيد من المعاناة الاقتصادية، التي ربما تدفع قطاعات من المواطنين للخروج إلى الشارع للمطالبة بانتخابات مُبكرة.
(&) تصاعد لدور المعارضة: جاءت دعوة زعيم المعارضة في إسرائيل يائير لابيد، إلى تشكيل حكومة طوارئ تشارك فيها المعارضة عقب عملية طوفان الأقصى، لتعكس المأزق السياسي الذي يواجه حكومة نتنياهو، والذي اعتبر أن إسرائيل في حالة حرب، كما برر يائير لابيد الدعوة لتشكيل حكومة طوارئ بأن إسرائيل في حالة حرب ولن تكون سهلة ولا قصيرة، ولها آثار استراتيجية لم تشهد مثلها منذ سنوات عديدة، مؤكدًا أن هناك خطرًا كبيرًا في أن تتحول إلى حرب متعددة الساحات، لذلك من المحتمل أن يتصاعد دور المعارضة الإسرائيلية ضد نتنياهو في المدى المنظور، لا سيما أنها أطلقت تحذيرات متعددة ضد الحكومة المتطرفة التي يقودها نتنياهو، وهو ما سيجعل من بقائه وبقاء حكومته في الحياة السياسية وفي الحكم أمرًا مشكوكًا فيه إلى حد كبير.
مجمل القول إن عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها حركات المقاومة الفلسطينية، تؤكد على حقيقة راسخة ومتعارف عليها في أدبيات النضال الوطني، بأنه لا توجد مقاومة وطنية هزمت على مر التاريخ، فكل خبرات التاريخ تؤكد على انتصار صاحب الأرض في نهاية المطاف، وذلك بالعودة لمقررات الشرعية الدولية التي تقر بحل الدولتين، ومن دون شك فإن الرحيل المحتمل للحكومة الإسرائيلية الأكثر ويمينية، ومع فشل نظريات الردع الإسرائيلي، سيكون الحل السياسي والانصياع لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة هو الأنسب لوضع حد للتصعيد الراهن.