في عملية فلسطينية غير مسبوقة، مثلت صدمة للقوات الإسرائيلية، وأثبتت الضعف الأمني الذي تعانيه، تلك القوات التي لطالما ادّعت امتلاكها لأحدث أنواع الأسلحة التكنولوجية وأن "جيشها لا يقهر"؛ أطلقت "كتائب عز الدين القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس"، فجر 7 أكتوبر 2023، معركة أسمتها بـ"طوفان الأقصى"، نجم عنها، إرسال وابل من الصواريخ والقذائف من قطاع غزة إلى داخل الأراضي الإسرائيلية، بجانب أسر عدد من الجنود الإسرائيليين، وهو ما دفع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، للقول في بث تلفزيوني مباشر، إن بلاده دخلت في "حالة حرب"، وإطلاق التهديدات بأن المقاومة الفلسطينية ستشهد تصعيدًا إسرائيليًا على أعلى مستوى خلال الساعات المقبلة.
وتجدر الإشارة إلى أن الهجوم الصاروخي والعملية الفلسطينية نجم عنها حتى وقت كتابة هذا التحليل، استشهاد أكثر من 320 فلسطينيًا وإصابة 931 آخرين حتى الآن، وعلى الجانب الآخر، وقع نحو 600 قتيل إسرائيلي وما يزيد على ألفي مُصاب ما بين جنود ومستوطنين، وفقًا لما أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية.
دلالات العملية الفلسطينية:
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن أهمية عملية "طوفان الأقصى"؛ تنبع من توقيتها، إذ جاءت بالتزامن مع جملة من التطورات، هذا بجانب إيصالها لجملة من الرسائل للسلطات الإسرائيلية، يمكن إيضاحها على النحو التالي:
(*) وضع حد للهجمات الإسرائيلية على الضفة الغربية: جاءت عملية "طوفان الأقصى" للرد على أعمال الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية على الضفة الغربية والمسجد الأقصى والقدس الشرقية، التي تصاعدت حدتها منذ مطلع عام 2023، أبرزها: عملية اقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، أبريل الماضي، واقتحامها لمدينة جنين بالضفة الغربية، يوليو الماضي، فضلًا عن الهجمات الدموية التي نفذتها الشرطة الإسرائيلية خلال أغسطس وسبتمبر الماضيين بالضفة الغربية والقدس والاعتداءات المستمرة من قبل المستوطنين الإسرائيليين بعدة مدن بالأراضي الفلسطينية، وهو السبب الذي أعلنه "محمد الضيف" القائد العام لـ"كتائب عز الدين القسام"، قائلًا إن "عملية طوفان الأقصى لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية".
(*) إبراز القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية: أظهرت عملية "طوفان الأقصى" القدرات العسكرية التي باتت تتمتع بها قوى المقاومة الفلسطينية، وقدرتها على تنويع الهجمات برًا وبحرًا وجوًا، وكشفت النقاب عن ترسانة الصواريخ التي يمتلكها الفلسطينيون، وبعثت برسالة لجيش الاحتلال مفاداها أن الفلسطينيين لديهم ليس فقط السلاح المتنوع القادر على هزيمة القوات الإسرائيلية، لكن أيضًا يمتلكون عنصر "التمويه" القادر على إثبات فشل الاستخبارات الإسرائيلية، وتنفيذ ضربات قاضية وذات تأثير قوي في عقر دارهم، وهو ما عكسته بالفعل هذه العملية، لدرجة صدمت الإسرائيليين، خاصة أن عملية "طوفان الأقصى" مصورة بالكامل، ما شكل ضربة فادحة للجيش الإسرائيلي، وكشف "الإعلام العسكري" لحماس الضوء عن سبب نجاح هذه العملية، وهي منظومة الصواريخ محلية الصنع "رجوم" قصيرة المدى من عيار 114 ملم، التي تم استخدامها لتسهيل عملية عبور المقاومة الفلسطينية إلى مستوطنات غلاف غزة وتنفيذ عملية كُبرى بهذه الدقة، فضلًا عن أن الضربة الأولى التي استهدفت مواقع عسكرية إسرائيلية نفذت بما يزيد على 5 آلاف صاروخ وقذيفة.
(*) تصاعد الاحتجاجات ضد "نتنياهو" في إسرائيل: تأتي عملية "طوفان الأقصى" لتشكل ضربة أخرى لرئيس وزراء إسرائيل "بنيامين نتنياهو"، الذي يعاني منذ يوليو الماضي وحتى الوقت الحالي، احتجاجات شعبية ضد مساعيه لتمرير جملة من التشريعيات القضائية تحت شعار "إصلاح القضاء"، وتنص على منح حكومة اليمين المتطرف "أغلبية" في لجنة اختيار القضاة، وهو ما رفضه الإسرائيليون معتبرين أن ذلك يخالف الشرعية ويستهدف الديمقراطية بل ويقوض منظومة القضاء، وفي الوقت ذاته، فقد رفع المحتجون خلال تظاهراتهم دعوات لرفضهم الالتحاق بالجيش والخدمة الاحتياطية الإلزامية، ونتيجة تصاعد حدة هذه الاحتجاجات فقد كشف بعض المراقبين أن الجيش الإسرائيلي طلب من "نتنياهو" فتح آفاق للحوار السياسي وعدم التمادي في الضغط الأمني، ولذلك فإن هذه العملية غير المسبوقة ستصعد رفض الإسرائيليين بالداخل ضد "نتنياهو".
تحركات إسرائيلية:
في إطار الدلالات سالفة الذكر، يمكن القول إن السلطة الإسرائيلية ستبدأ بالتحرك في عدة اتجاهات للرد على هذا الهجوم الذي يعد الأكبر على إسرائيل منذ سنوات، يمكن إبرازها على النحو التالي:
(&) رفع حدة التصعيد الإسرائيلي: ستحاول القوات الإسرائيلية خلال الساعات القليلة المقبلة شن أعمال تصعيدية وهجمات سريعة على فصائل المقاومة الفلسطينية في محاولة منها لـ"حفظ ماء الوجه" ورد بعض الاعتبار لجيشها واستخباراتها للتخفيف من آثار الصدمة والخسائر التي تلقوها جرّاء هذه العملية، وبالفعل بدأت سلطة الاحتلال في التحرك معلنة بأنها في "حالة حرب"، وأطلقت عملية أسمتها بـ"السيوف الحديدية" وبموجب هذه العملية استدعت القوات الإسرائيلية "قوات كبيرة إلى منطقة الجنوب وأعلنت حالة استثنائية في الجبهة الداخلية حتى 80 كلم، بجانب الإعلان عن تجنيد عشرات الآلاف من جنود الاحتياط"، وفقًا لما كشفه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي "أفيخاي أدرعي"، وفي ضوء ذلك، متوقع أن تشهد الساعات بل الأيام المقبلة ارتفاعًا إسرائيليًا في مستوى التصعيد العسكري سيوجه بشكل أكبر نحو قادة "كتائب القسّام".
(&) التواصل مع دول خارجية للتوسط للإفراج عن أسراها: نجم عن "طوفان الأقصى" عملية أسر واسعة طالت إسرائيليين عسكريّين ومستوطنين تم نقلهم إلى غزة، وهو الأمر الذي يقلق سلطة الاحتلال، التي ستكثف جهودها من أجل محاولة الإفراج عن جنودها، وقد تتحرك لطلب الوساطة من أجل الإفراج عن أسراها، من بعض القوى الخارجية المعنية بالأزمة الفلسطينية وعلى وجه الخصوص "مصر التي لطالما لعبت أدوار عدة للتوصل لحل للقضية الفلسطينية وتخفيف معاناة الفلسطينيين"، وفي الجهة الأخرى، فإن وجود أسرى قد يدفع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للتفاوض، لكن ستحاول القوات الإسرائيلية استباق هذه العملية بالانتقام ومحاولة تحقيق أي مكسب من أجل التفاوض من موقع قوة وليس الضعف.
(&) الضغط الإسرائيلي لعدم تفعيل سيناريو "توحيد الساحات": وجهت وزارة الدفاع الإسرائيلية خلال الساعات الماضية اتهامًا إلى إيران بضلوعها في عملية "طوفان الأقصى"، وجاء في بيان الوزارة، أن "إيران بدأت حربًا علنيّة معنا، وسننتقم"، والدافع وراء توجيه إسرائيل الاتهام لطهران، هو عودة التصعيد بينهما، خلال الفترة الماضية، الذي تتصاعد حدتها بين الفترة والأخرى خاصة بالأراضي السورية، والأمر الثاني يرجع إلى زيارة وفدين من "حماس" و"الجهاد الإسلامي" لإيران، يونيو الماضي، وكانت هذه الزيارة بالتزامن مع التصعيد الإسرائيلي بالضفة الغربية.
ولن تقتصر معركة إسرائيل على الداخل الفلسطيني بل قد تمتد لتطال أطرافًا خارجية خاصة إيران و"حزب الله" اللبناني، إذ لا تريد سلطة الاحتلال تنفيذ سيناريو "توحيد الساحات" من خلال فتح الحزب بدعم من إيران لجبهة من الجنوب ضد إسرائيل، خاصة بعدما وجه قادة حماس دعوة عربية وإقليمية لدعمهم، كما ارتفعت دعوات الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي، للمطالبة بأن تكون عملية "طوفان الأقصى" البداية لمحطة "توحيد الساحات" وتحرك جميع الحركات في المنطقة، وهو السيناريو الذي ستحاول إسرائيل التصدي له بقوة.
(&) إعادة هيكلة أجهزة الاستخبارات: إن الهزيمة القاسية التي تلقتها إسرائيل خلال الساعات القليلة الماضية على يد منظمة عسكرية وليس جيشًا نظاميًا، يكشف عن ضعف أجهزة استخبارات إسرائيل وعلى رأسها جهاز "الشاباك" (المسؤول عن تقدير الموقف بقطاع غزة والضفة الغربية)، وتراجع القدرات الأمنية والعسكرية للجيش الإسرائيلي، وهو الأمر الذي قد يدفع السلطات الإسرائيلية خلال الفترة المقبلة للتحرك في اتجاهين، أولهما، تعزيز القدرات العسكرية لجيش الاحتلال، ومحاسبة المسؤولين العسكريين عن هذا الفشل، خاصة وزير الدفاع وقائد الأركان، وثانيهما، محاسبة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، وإضافة لذلك فقد تتسبب هذه العملية في تصاعد حدة الغضب الشعبي على الحكومة ورئيسها وأحزابها، وقد تكون البداية لإقصاء رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو".
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن عملية "طوفان الأقصى" تعد لحظة مفصلية بالنسبة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كما أنها بمثابة "الزلزال" الذي هز أركان إسرائيل، التي ستعمل على محاولة حشد الدعم الدولي والزعم أنها تعرضت لعملية إرهابية وعلى العالم دعمها والتصدي لما تواجهه. وعلى الجانب الآخر، فإن هذه العملية قد تمنح الفرصة للدول العربية وغيرها من الدول الداعمة للقضية الفلسطينية لاستغلالها وإحداث فارق في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وانتهاز نتائج الاشتباك، خاصة على إسرائيل، وإجبارها على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف.