جاء بيان وزارة الخارجية الصينية، مطلع أغسطس 2023، تعليقًا على أحداث النيجر بعد الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، 26 يوليو 2023، وتشكيل مجلس انتقالي برئاسة الجنرال عبدالرحمن تشياني، ليعكس حيادية الموقف الصيني إزاء تطورات الأزمة، إذ أشار البيان إلى أن الصين تعتقد أن النيجر ودول المنطقة الأخرى لديها الحكمة والقدرة على إيجاد حل سياسي للوضع الراهن، كما اعتبر البيان أن الرئيس بازوم صديق للصين، ويدعو لضمان سلامته الشخصية، وأن تتعامل الأطراف ذات الصلة في النيجر مع الخلافات بشكل سلمي عن طريق الحوار، انطلاقًا من المصالح الأساسية للدولة والشعب.
دلالات متعددة:
يعكس موقف الصين الحيادي من أزمة النيجر، العديد من الدلالات، يمكن الإشارة إلى أبرزها في العناصر التالية:
(*) محورية المصالح الصينية في منطقة غرب إفريقيا: تعد منطقة غرب إفريقيا من المناطق الواعدة في جذب الاستثمارات الأجنبية بمجال النفط والتعدين، لذلك جاء الموقف الصيني الحيادي من أزمة النيجر ليعكس محورية المصالح الصينية في منطقة غرب إفريقيا بشكل عام، إذ تسعى لتصدير نموذجها التنموي القائم على الدعم الاقتصادي دون مشروطية سياسية، لذلك تتنوع الاستثمارات الصينية في مجالات البنية التحتية، مثل الطرق ومحطات الطاقة، والمعادن والنفط التي تتمتع دول غرب إفريقيا فيها بفرص واعدة في تلك القطاعات الحيوية، لا سيما في ظل احتياجات الصين لمورد الطاقة الذي تقوم عليه نهضتها الصناعية بشكل كبير، وهو ما يجعل الصين تسعى لتنويع مصادر حصولها على الطاقة، سواء من دول الشرق الأوسط، خاصة منطقة الخليج العربي أو من دول غرب إفريقيا، إذ تعد النيجر هي سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وانتجت نحو 5% من التعدين العالمي عام 2022.
(*) تنامي العلاقات الاقتصادية الصينية مع النيجر: تشكل العلاقات الاقتصادية بين الصين والنيجر محددًا واضحًا لطبيعة الموقف الصيني الحيادي من الأزمة، في ظل تنامي العلاقات الاقتصادية الصينية مع النيجر. ووصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 993.6 مليون دولار أمريكي عام 2022، إذ بلغت صادرات الصين إلى النيجر 675.92 مليون دولار أمريكي، بزيادة سنوية قدرها 72.6%، وبلغت واردتها 317 مليون دولار أمريكي. وأقامت الصين العديد من المشروعات في النيجر بالمجالات الزراعية، والبنى التحتية، وبناء المنازل والمستشفيات والجسور. كما يعد القطاع الأهم الجاذب للاستثمارات الصينية في النيجر هو قطاع النفط والتعدين، إذ تستثمر شركة البترول الوطنية الصينية المملوكة للدولة في حقل أغاديم شرق النيجر. الذي بدأ الإنتاج عام 2011. لذلك شرعت الصين في مد أنبوب نفطي يبلغ طوله 2000 كم، الذي يربط حقل أغاديم النفطي بالنيجر إلى ميناء سيمي في دولة بنين، الذي تأخر افتتاحه عام 2022 بسبب جائحة كورونا.
(*) مواجهة النفوذ الغربي في إفريقيا: تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى استعادة نفوذها داخل القارة الإفريقية، بعد أن تراجع دورها في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي اعتبرها قارة مشكلات، لذلك تجلى استعادة ذلك الدور في عقد الرئيس الأمريكي جو بايدن للقمة الأمريكية الإفريقية، وتعهده بتقديم 55 مليار دولار. كما تكررت الزيارات الأمريكية إلى دول القارة الإفريقية من مسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الأمريكية، منهم كاميلا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي، ومندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، وجيل بايدن، زوجة الرئيس الأمريكى، وأنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، الذي تعهد في زيارته النيجر، مارس 2023، بتقديم 150 مليون دولار للساحل الإفريقي. في مواجهة ذلك النفوذ المتنامي جاء الموقف الصيني الحيادي من الأزمة، لا سيما مع الرفض الأمريكي لاستخدام العنف لإعادة المسار الدستوري إلى النيجر، ورفضها إعلان تقديم دعم لتوجه المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، التي أعلنت استعدادها للتدخل عسكريًا لإعادة الحكومة المنتخبة. وهو نفس الموقف الذي تبنته ألمانيا وإيطاليا في حين تتبنى فرنسا دعم منظمة الإيكواس لإعادة الحكومة المُنتخبة.
(*) الحد من الانخراط الصيني في الصراعات: تتبنى الصين العديد من المبادرات العالمية الرامية إلى تحقيق التنمية العالمية، ودعم جهود بناء السلام والحد من الصراعات الدولية. وتماشيًا مع تلك المبادرات العالمية تحاول الصين عدم الانخراط في الصراعات سواء تلك الموجودة داخل الدول أو التي لها امتدادات خارجية. إذ تركز الدبلوماسية الصينية في الآونة الأخيرة على تسوية الصراعات الموجودة كان أبرزها تبني وساطة ناجزة لتحقيق الاتفاق السعودي الإيراني. وهو ما يصب في مصلحة كل الأطراف لتسوية الخلافات، فضلًا عن الاستثمار في تسوية الصراعات التي ستعود بالنفع على الاقتصاد الصيني، الذي سيضمن تدفق النفط من المنطقة إلى بكين التي تحتاجه لدعم نهضتها الصناعية الكبرى.
تداعيات محتملة:
في ضوء دوافع الموقف الصيني من الأزمة بالنيجر، فإن ثمة مسارين رئيسيين محتملين للسلوك الصيني إزاء تطورات الأزمة، هما:
الأول: ملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الفرنسي من النيجر، بعد تزايد المظاهرات الرافضة للوجود الفرنسي، الذي يعتبره قطاع من المؤيدين للمجلس الانتقالي، بعد الإطاحة ببازوم، فرصة لإنهاء الوجود الفرنسي في النيجر الذي لا يزال يعتبرونه استعمارًا بأدوات جديدة أسهمت في نزح ثروات النيجر. وهو ما سيعطي فرصة لزيادة الاستثمارات الصينية بالمجالات المتوقع انسحاب فرنسا منها، مثل قطاعات النفط والتعدين واستخراج اليورانيوم.
أما المسار الثاني وربما الأصعب الذي من المحتمل أن يواجه الصين، فيتمثل في إحلال النفوذ الأمريكي محل الفرنسي بالنيجر، وفرنسا لا زالت تنظر بريبة للموقف الأمريكي، وهو ما تؤكده عدة شواهد، منها رفض الولايات المتحدة الأمريكية استخدام الوسائل العنيفة لإعادة الحكومة المنتخبة، وتأييد الحل السلمي بدلًا من العسكري الذي تتبناه الإيكواس، والتعامل مع سياسة الأمر الواقع، الذي تجلى في وصول السفيرة الأمريكية الجديدة كاثلين فيتز جيبونس، العاصمة نيامي، وبرغم تأكيد الولايات المتحدة أن تعيين السفيرة الجديدة لا يعد تغييرًا في الموقف السياسي، لكنه يأتي استجابة للحاجة إلى وجود قيادة عُليا للبعثة في وقت صعب.
مجمل القول إن الموقف الصيني إزاء أزمة النيجر تحدده المصالح الاقتصادية للصين في النيجر ومنطقة غرب إفريقيا بشكل عام، وهي المنطقة التي تزخر بالعديد من المشكلات والتعقيدات والفرص الاقتصادية أيضًا. لذلك فإن التكالب الدولي للسيطرة على الموارد الإفريقية سواء في النيجر أو في الدول التي تعاني مشكلات عدم الاستقرار ستظل مرهونة بهشاشة الدولة في تلك المنطقة، ومدى قدرة نخبتها على إعادة بنائها على أسس من الهوية الوطنية ولصالح الحفاظ على مقدرات شعبها وصيانة سيادتها واستقرارها، بعيدًا عن التجاذبات الدولية.