الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

خريطة متغيرة.. تأثير ظاهرة الهجرة المناخية على التحولات الديموغرافية في العالم

  • مشاركة :
post-title
تأثير ظاهرة الهجرة المناخية على العالم

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

عكست تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش في 26 يوليو 2023 من أن عصر الاحتباس الحراري انتهى وبدأ عهد الغليان الحراري العالمي، والتحذير من نتائجه المأساوية، عمق تأثير التغيرات المناخية وسرعتها وتأثيرها على كافة المجتمعات دون استثناء. لذلك تشكل ظاهرة الهجرة المناخية، والتي جاءت نتاجًا للتغيرات المناخية الحادة التي يشهدها كوكب الأرض والناجمة ليس فقط عن ارتفاع درجات الحرارة غير المسبوقة، وإنما أيضًا بسبب تغيرات مناخية أخرى مثل الجفاف والتصحر، والزلازل والبراكين، والأعاصير والفيضانات، وارتفاع مناسيب المياه في المدن الشاطئية، بما دفع الملايين من السكان إلى الهجرة من مواطنهم الأصلية إلى داخل وخارج بلادهم، وهو ما أدى لظهور العديد من الظواهر الأخرى التي ترتبط بالهجرة المناخية مثل اللاجئ البيئي والهجرة البيئية، والتي تعنى اضطرار السكان لمغادرة موطنهم الأصلي بسبب التغيرات المناخية في البيئة المحيطة بهم. وتعكس تقارير منظمة الهجرة الدولية حجم المأساة الإنسانية، والتي سيكون لها تداعياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من أن أعداد مهاجري المناخ ستتجاوز حاجز المليار والنصف بحلول عام 2050.

عوامل متعددة

هناك العديد من العوامل التي تدفع بالملايين من البشر إلى الهجرة المناخية سواء داخليًا أو خارجيًا. لذلك يمكن الإشارة إلى أبرز تلك العوامل في التالي:

(*) التصحر و الجفاف: يشكل التصحر والجفاف من أكثر العوامل التي تؤدي إلى الهجرة المناخية، وذلك بسبب نقص الموارد المائية التي تعزز من البقاء والاستمرار للمجتمعات البشرية لاسيما تلك المجتمعات التي تقوم أنشطتها الرئيسية على الزراعة، ففي تقرير صادر عن البنك الدولي في 2022 يتوقع بأن يضطر ما يقرب من حوالي 13 مليون شخص في شمال إفريقيا إلى الهجرة الداخلية بحلول عام 2050 بسبب الجفاف، كما توصلت دراسة أشرفت عليها الأمم المتحدة في سبتمبر 2015 إلى نتيجة مؤداها أن ثلث العالم مهدد بتجريف التربة وثلث إفريقيا مهدد بالتصحر.

(*) ارتفاع درجات الحرارة: اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش في 26 يوليو أن عواقب الارتفاع القياسي في درجات الحرارة واضحة ومأساوية حيث تجرف الأمطار الموسمية الأطفال وتهرب العائلات من لهيب النيران وينهار العمال بسبب الحر الشديد، وأكد أن هذا الصيف قاس بالنسبة لأجزاء شاسعة من أمريكا الشمالية وأفريقيا وأوروبا وأنها بمثابة كارثة للكوكب بأسره. كما حذر الكثير من علماء المناخ من أنه إذا ارتفعت درجات الحرارة العالمية بمقدار درجتين مئويتين، فسوف تنهار الصفائح الجليدية، بما يؤدى إلى ارتفاع مياه المحيطات والبحار وغرق المدن الشاطئية والجزر المأهولة بالسكان. وقد أدى ارتفاع درجات الحرارة في مدن أوروبية عديدة مثل باريس ولندن وروما، وما تبعها من ظاهرة حرائق الغابات في عدد من الدول الأوربية مثل اليونان وإسبانيا وسلوفينيا وفرنسا إلى إخلاء مناطق بأكملها من السكان. وتشير تصريحات الخبراء المعنيين بالمناخ إلى أن أوروبا على وجه الخصوص ترتفع درجة حرارتها بشكل أسرع مما توقعته العديد من النماذج المناخية، كما أشارت تقديرات معنية بالتغيرات المناخية إلى أن أكثر من 61 ألف شخص لقوا حتفهم بسبب الحر في أوروبا خلال عام 2022. يضاف إلى ذلك أن ارتفاع درجات الحرارة يؤثر على جودة المحاصيل الاستراتيجية بما يؤدى إلى انعدام الأمن الغذائي، فوفقًا لتقديرات البنك الدولي فإن 30% من سكان العالم تقريبًا عانوا من انعدام طفيف أو شديد للأمن الغذائي عام 2022.

(*) الفيضانات والأعاصير: أدت الفيضانات والأعاصير التي شهدتها العديد من المجتمعات لاسيما في الدول الغربية كأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى هجرة مؤقتة للسكان الذين تضررت منازلهم فعلى سبيل المثال شهدت المناطق الجنوبية والغربية للولايات المتحدة الأمريكية أعاصير متعددة مثل: كاترينا وسالي ومسيسبي وهيلاري. وهي تلك الأعاصير التي تأثرت بها العديد من المناطق نظرًا لوجود المحيطات القريبة من الولايات المتحدة بما جعل تلك المحيطات التي كانت بمثابة داعمة للأمن القومي الأمريكي باعتبارها أمة بعيدة عن المخاطر تتحول لمصدر تهديد بعد التغيرات المناخية الحادة وارتفاع درجات الحرارة. وفى الصين خصصت الحكومة ما يقرب من 290 مليون يوان (40.65 مليون دولار أمريكي) في يوليو 2023 من الصناديق المركزية للإغاثة من الكوارث الطبيعية، لدعم أعمال الإنقاذ والإغاثة في المناطق المتضررة من الفيضانات والأعاصير.

فيضان في ولاية وست فرجينيا الأمريكية

مسارات محتملة:

من المحتمل أن تتخذ مسارات الهجرة المناخية مسارين رئيسيين بما سيكون له تداعياته على إعادة تموضع السكان:

المسار الأول هو المسار الداخلي، بحيث تنتقل موجات الهجرة المناخية داخل الدولة الواحدة من المناطق التي تتعرض لتغيرات مناخية إلى المناطق الآمنة التي يمكن العيش فيها، وتشير الإحصاءات الصادرة نهاية عام 2021 إلى أن عدد المهاجرين داخليًا بسبب تغير المناخ قد يصل إلى 216 مليونًا على مستوى العالم بحلول 2050. وهذه الهجرة ربما تكون مؤقتة تنتهي بزوال أسبابها مثل المناطق التي تقع بمحاذاة الغابات التي تشهد حرائق مثل الغابات في اليونان وإسبانيا أو جبال الألب الفرنسية أو انتهاء الأعاصير كما يحدث في مناطق من الولايات الأمريكية التي تعرضت لأعاصير وشهدت عودة للسكان أو قد تكون هجرة دائمة كما يحدث في عدد من الدول الإفريقية التي تعاني أجزاء من مناطقها من الجفاف والتصحر ونقص المياه، حيث تسهم تلك الهجرة في عمليات انتقال واسعة للمناطق الجديدة التي تشهد ضغطًا على البنية التحتية والمرافق العامة، والحاجة إلى توفير أماكن لإيواء المهاجرين إلى تلك المناطق، فضلًا عن انتقال نماذج للقيم تختلف عن تلك السائدة لدى قاطني المناطق المهاجرين إليها. وهو الأمر الذي يؤدى إلى نوع من عدم التوازن في التوزيع الديموجرافي داخل الدولة الواحدة. وقد يؤدى نمط الهجرة الدائمة داخل الدولة الواحدة إلى حدوث صراعات وأزمات ما بين المهاجرين البيئيين والمقيمين في تلك المناطق.

المسار الثاني وهو مسار الهجرة المناخية من الدول التي تعاني من تغيرات مناخية حادة إلى دول أخرى بحثًا عن نوع من الاستقرار. ففي عام 2018، قدر البنك الدولي أن ثلاث مناطق هي: أمريكا اللاتينية، وإفريقيا جنوب الصحراء، وجنوب شرق أسيا، ستولد 143 مليون مهاجر بسبب المناخ بحلول عام 2050. وتتخذ مسارات الهجرة المناخية مسارًا ثابتًا من دول الجنوب إلى دول الشمال، والتي لا يقتصر استقبال المهاجرين لديها على المهاجرين البيئيين فقط، وإنما المهاجرين بسبب المعاناة الاقتصادية، والصراعات المسلحة، والحروب الانفصالية، والتطهير العرقي. وتكمن خطورة الهجرة البيئية من دول الإرسال إلى دول الاستقبال في أنها قد تختلط مع أنشطة دولية غير مشروعة مثل الاتجار في البشر أو عصابات الجريمة المنظمة أو أنشطة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة.

مجمل القول إن تأثير الهجرة المناخية على التحولات الديموغرافية سيكون له تداعياته المستقبلية على إعادة توزيع السكان داخل الدول التي تعاني من تغيرات مناخية حادة. أما على المستوى الخارجي فلازال ذلك العامل محدود مقارنة بالعوامل الأخرى للهجرة مثل الصراعات المسلحة، والتوترات العنيفة أو بحثًا عن فرص أفضل للحياة. وإذا كانت الدول المتقدمة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية تمثل 12% فقط من سكان العالم، إلا أنها مسؤولة عن انبعاث نصف الغازات المسببة للاحتباس الحراري، التي تعاني منها الدول النامية والمتقدمة على حد سواء. وهو ما يتطلب منها تعزيز تمويل الدول الأكثر تضررًا من التغيرات المناخية، حتى تتمكن من التكيف مع المتغيرات المناخية وآثارها الممتدة حتى تتحقق ركائز العدالة المناخية.