سعيًا لبلوغ قاعدة تفاهمات متبادلة تؤسس لعلاقات مستقرة، حرصت بغداد وأنقرة خلال مباحثات أجريت الأربعاء، على طرحٍ جاد لجميع الملفات العالقة بين البلدين، وأمام عزم سبقه الكثير من العثرات في بلوغ تفاهمات يمكن البناء عليها، تبقى معايير الربح والخسارة هي المتحكم في النتائج.
واستقبل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في مكتبه، وزير الخارجية التركي هاكان فيدان والوفد المرافق له، إذ تضمن اللقاء بحث العلاقات الثنائية بين البلدين، وسُبل توطيد التعاون المتبادل على مختلف المستويات والصعد، والبحث في تعزيز الشراكة الاقتصادية، وجهود مكافحة الإرهاب بين البلدين. بحسب بيان أورده مكتب السوداني.
وفي تقدير الدكتور عصام الفيلي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة المستنصرية في بغداد، في تصريحات لموقع "القاهرة الإخبارية"، تكشف زيارة وزير الخارجية التركي العاصمة العراقية، التي تعد الأولى منذ توليه المنصب، عن أن هناك ملفات جدية تريد تركيا أن تخلق قاعدة من التفاهمات عليها مع العراق.
خلق تفاهمات
ويرى أستاذ العلوم السياسية، أن وجود لجان مشتركة بين البلدين في ملف المياه، لا يحرك ساكنًا دون "توفر قناعة لدى أنقرة بأن نهري دجلة والفرات هي أنهار دولية وليست عابرة للحدود"، مشيرًا إلى خطابات سابقة لأنقرة اتهمت فيها بغداد "بالمطالبة بحصص مياه ليست من حقها، وأن نهري دجلة والفرات منبعيهما تركيا، وبالتالي هي الأحق في تقديرها"، وهو ما يحتاج إلى إعادة نظر.
وعوّل "الفيلي" على دور يقع على عاتق العراق، مؤكدًا أنه يجب أن يخطو نحو "خلق تفاهمات" من شأنها إعادة معالجة أزمة النهرين.
وتحدث عن حلول بديلة على العراق بلوغ طريقه إليها، لا سيما فيما يخص نهر الفرات الذي يتحصل منه العراق على حصته من المياه بعد سوريا، التي تشكو تضييقًا تركيًا على حصتها هي الأخرى.
وخلال المباحثات، دعا رئيس الوزراء العراقي، الجانب التركي، إلى "زيادة الإطلاقات المائية لنهر الفرات"، مؤكدًا "أهمية أن يجري التوافق بهذا الملف لما فيه المصلحة المشتركة وحفظ الحقوق المتبادلة"، واتفق الجانبان خلال المباحثات على تشكيل لجنة دائمة بين البلدين لمعالجة ملف المياه، بحسب مكتب السوداني.
ويعاني العراق بشدة من شُح في الموارد المائية، لا سيما بسبب سد إيليسو التركي الذي بُني عند منبع نهر دجلة، وسدود تركية أخرى بنيت على روافد أصغر، دفعت به نحو نسب جفاف متزايدة، تسببت في نزوح سكاني.
وقالت بغداد ودمشق مرارًا وتكرارًا إن تركيا هي السبب في قلة مواردهما المائية، وسعيًا للتنسيق للضغط من أجل الالتزام بحصص المياه المحددة مسبقًا.
ورقة سياسية
وينظر سركيس قصارجيان، الصحفي المتخصص في الشأن التركي، إلى ملف المياه الذي يأتي ضمن جملة ملفات أكدت أنقرة أنها مشكلات عالقة ستحرص على حلها، باعتباره "ورقة سياسية بالنسبة لها".
وفي تصريحات لـ"القاهرة الإخبارية"، قال "قصارجيان" إن "تركيا تمارس من خلال هذه الورقة الضغط على الحكومة المركزية في العراق، وبالتالي الحرص له دوافع سياسية، وليس لأزمة تفرض ضرورة التعاون أو التنسيق"، بحسب قوله.
ويرى أن أنقرة ستحاول من خلال التفاوض على حصة المياه الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب من العراق، لا سيما فيما يخص المبلغ المفروض على أنقرة دفعه والمتعلق بالنفط المباع لها من إقليم كردستان بما يخالف القوانين الدولية، والضغوط المطالبة بانسحاب قوات أنقرة غير المرغوب فيها، بالإضافة إلى أمور سياسية أخرى"، بحسب قوله.
حول غاية تركيا من مناقشة هذا الملف تحديدًا، اتفق أستاذ العلوم السياسية بجامعة المستنصرية، الذي أكد أهمية كبيرة يمثلها ملف النفط لأنقرة، قال الفيلي: "تريد تركيا في هذا الملف تحديدًا (النفط) أن يكون هناك إعادة للنظر في الغرامة التي فرضت عليها من قبل محكمة باريس، والبالغة أكثر من مليار ونصف المليار دولار".
وغُرمت تركيا، في مارس الماضي، بموجب قرار هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، بشأن صادرات نفط تبلغ 450 ألف برميل يوميًا من إقليم كردستان المتمتع بحكم ذاتي، لأنقرة بطريقة غير شرعية، دون موافقة الحكومة الاتحادية، بما يخالف القوانين الدولية.
وأكد رئيس الوزراء العراقي خلال المباحثات أن "الأمن والاستقرار أولوية للحكومة، وأنها لن تسمح لأي جهة أو تنظيم، تحت أي مسمى، أن يعبث بالأمن أو استخدام الأراضي العراقية منطلقًا للاعتداء على دول الجوار"، ودعا للتوجه نحو "تفعيل المزيد من التعاون في إطار اللجان الأمنية المشتركة مع تركيا واعتماد الحوار، بعيدًا عن التصرف أحادي الجانب"، بحسب مكتب السوداني.
ميزان رابح
وبينما بحث الجانبان، سُبل توطيد التعاون المتبادل، وتعزيز الشراكة الاقتصادية، أشار الكاتب الصحفي المتخصص بالشأن التركي إلى حرص أنقرة على علاقاتها مع بغداد، لما تنطوي عليه من "بعد اقتصادي بالغ الأهمية بالنسبة لتركيا"، التي تقع بالوقت الراهن تحت وطأة أزمة اقتصادية تدفعها بأن تحافظ قدر الإمكان على "الميزان التجاري الرابح" بينها وبين بغداد، في تقديره.
وقال قصارجيان: "على الرغم من النفوذ الإيراني في العراق، إلا إن ثقل إيران الاقتصادي لا يضاهي 10% من الثقل الاقتصادي التركي.. هناك حجم كبير جدًا للتبادل التجاري بين تركيا والعراق، والميزان التجاري هو بالمطلق لصالح أنقرة".
أضاف: "تركيا لا تريد في ظل هذه الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أن يتم المساس بأي شكل من الأشكال بهذا الميزان الرابح، لهذا أظن أنها ستكون حريصة على مواصلة التفاوض والحديث عن العمل المشترك والاستجابة لمتطلبات بغداد في ملف المياه، لكنها لن تعطي حتى تتأكد أنها حصلت على الامتيازات الساعية لها".
وبلغ حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا، أكثر من 15 مليار دولار خلال العام الماضي 2022، ومن أبرز المستوردات بينهما الأحجار الكريمة والوقود المعدني والزيوت.
علاقات مستقرة
ومقابل طرحٍ جادٍ للسوداني بشأن فرص واعدة لمزيد من التعاون الاقتصادي والتجاري مع أنقرة، لا سيما المرتبطة بـ"مشروع طريق التنمية"، في تقدير "الفيلي" تدرك تركيا حاجتها للحفاظ على علاقات ذات وتيرة مستقرة مع بغداد، خاصة بعد طرح مشروع ينظر إليه باعتباره أحد أهمّ الممرات الاقتصادية في المنطقة، وهو ملف ترى تركيا أنه يجب التفاهم عليه مع الحكومة العراقية".
ومشروع "طريق التنمية" يربط ميناء الفاو الكبير بتركيا وصولًا إلى أوروبا بمشاركة 10 دول إقليمية، وهي السعودية وتركيا وسوريا والأردن والكويت والبحرين وقطر والإمارات والبحرين وإيران.
وبالعودة للملف الأكثر إلحاحًا في العراق، وبمقياس الربح والخسارة الذي تعتمده أنقرة، يرى الباحث الأكاديمي أنه "إذ أطلقت تركيا المياه" فهذا يعني أنها "تؤسس لعلاقة استراتيجية حتى يكون لها حظوظ في حقول الاستثمار داخل الأراضي العراقية".