عقد قادة من جيشي الهند والصين الجولة التاسعة عشرة من محادثات عسكرية رفيعة المستوى على مدار يومي 13 و14 أغسطس 2023، شهدت نقاشات إيجابية وعميقة وبنّاءة، حسب صحيفة "جلوبال تايمز" الصينية الصادرة باللغة الإنجليزية، وذلك ضمن جهود البلدين لتجاوز الخلافات الحدودية ومنع تفاقمها.
وفيما أشار البيان المشترك إلى إيجابية المحادثات والتزام البلدين "الحفاظ على السلام والهدوء" في المناطق الحدودية، إلا أنها لم تحدث اختراقًا يُذكر لحل الحوادث الحدودية التي تصاعدت بصورة ملحوظة في صِدام وادي جلوان 2020، وفق وسائل الإعلام المحلية الهندية.
وترسل اللقاءات عدة إشارات يغلب عليها الطابع الإيجابي بشأن العلاقة بين الجارتين النوويتين، خاصة قبيل أسبوع من انطلاق القمة الخامسة عشر لدول تجمع البريكس بجنوب إفريقيا، التي من المنتظر أن يشترك فيها الرئيس الصيني شي جين بينج، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، في ظل الأدوار المهمة التي يلعبها البلدان على الساحة الدولية والتوافق الضروري بينهما في ظل الرئاسة الهندية لمجموعة العشرين التي تنطلق قمتها في سبتمبر المقبل.
مؤشرات مهمة
أجريت الجولة التاسعة عشرة من المحادثات العسكرية الهندية الصينية في نقطة تشوشول-مولدو على الجانب الهندي من الحدود، بقيادة قادة الفرقة الرابعة عشرة في الجيش الهندي، وقادة منطقة جنوب شينجيانج العسكرية الصينية، لمناقشة سُبل تخفيف التوتر الحدودي بين البلدين، اللذين يتشاركان حدودًا تقارب 4 آلاف كم، وتلفت المحادثات إلى العديد من المؤشرات بشأن مستقبل العلاقات الهندية الصينية، على النحو التالي:
(*) جدية المحادثات العسكرية: تأتي المحادثات العسكرية بين البلدين بعد 4 أشهر من انعقاد الجولة الثامنة عشرة في أبريل 2023، نتيجة لتفاقم المخاوف بشأن التداعيات المحتملة لأي نزاع قد يخرج عن السيطرة بين البلدين في ظل انتشار نحو 400 ألف جندي بالتساوي من كلا البلدين في المناطق العسكرية الحدودية بينهما، ونشرت الصين منذ اشتباكات وادي جلوان نحو 50 ألف جندي على امتداد خط السيطرة الفعلي الفاصل بين البلدين، وفق معهد الولايات المتحدة للسلام. بينما نشرت الهند ما يتراوح بين 40 إلى 50 ألف جندي في ذات النطاق، حسب معهد لُوي الأسترالي.
ويشير استمرار المحادثات العسكرية بالتوازي مع انفتاح أفق المحادثات الدبلوماسية بين وزير الشؤون الخارجية الهندي د. سوبرامانيام جايشنكار ونظيره الصيني وانج يي على هامش اجتماعات آسيان منتصف يوليو الماضي في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، ولقاء وزراء خارجية تجمع البريكس في جوهانسبرج بجنوب إفريقيا. ومثلت المحادثات الدبلوماسية بداية لانفراج العلاقات وإعادتها إلى مسار شبه طبيعي يتجاوز مضاعفات النزاع الحدودي التي طغت على مجمل العلاقات.
(*) استحقاقات جوهرية: يمثل التفاهم ضرورة وأولوية قصوى للبلدين في مواجهة استحقاقات دولية عديدة تتشاطر فيها بكين ونيودلهي المواقف، وعلى رأسها الأزمة الروسية الأوكرانية في ظل مساعي البلدين للحفاظ على علاقتيهما بروسيا في مواجهة الضغوط الغربية المتزايدة باتجاه إدانة البلدين لموسكو بوصفهما أكبر مستوردين للنفط الروسي المنخفض عقب الحرب، فضلًا عن انتقاداتهم للسياسة الداخلية لكلا البلدين.
ويساهم الوضع الاقتصادي العالمي في دفع البلدين "أكبر اقتصادين ناشئين حول العالم" للتعاون في مواجهة الأزمات التي تواجه الاقتصادات الناشئة عمومًا، ومواجهة أي عثرات أو مؤشرات للتباطؤ تواجه اقتصادهما، ففي أبريل 2023، أشار تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن الصين والهند ستقودان التعافي العالمي في 2023 بنسبة نمو تتجاوز 50% من إجمالي النمو العالمي، بواقع 34,9% للصين و15,4% للهند.
ورغم القيود التي فرضتها الهند على الاستثمارات الصينية في نيودلهي خاصة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، إلا أن التبادل التجاري الكبير نسبيًا، الذي يتجاوز 117 مليار دولار في عام 2021، وفق مرصد التعقيد الاقتصادي "Observatory of Economic Complexity"، يساهم في منع انزلاق العلاقات لما هو أبعد من الفتور.
وفيما تتطلع الهند لقيادة مشاورات ناجحة خلال فعاليات قمة مجموعة العشرين على صعيد دعم الاقتصادات العالمية والنامية منها على وجه الخصوص في ظل محادثات خفض وإسقاط الديون، فإنها بحاجة لحشد الداعمين الدوليين ومن بينهم الصين، وفي المقابل يساهم التعاون بين بكين ونيودلهي في حماية مصالح البلدين بتجمع البريكس الذي ما يزال نموذجًا واعدًا للتعاون الاقتصادي الدولي يستقطب مجموعة واسعة من الدول النامية لأسباب اقتصادية وجيوسياسية تدعم توجهات كلا البلدين المتنافسين.
(*) تحوط متزايد: بالتوازي مع توتر العلاقات الأمريكية-الصينية، تعززت العلاقات الأمريكية الهندية في ظل مساعٍ حثيثة لواشنطن لتشكيل تكتل أمني آسيوي موازن لنفوذ الصين بامتداد منطقة المحيطين الهندي والهادئ في إطار التحالف الأمني الرباعي "كواد"، كما تشارك الهند في تدريبات مالابار العسكرية مع الولايات المتحدة بمشاركة أستراليا واليابان، التي انطلقت نسختها البحرية هذا العام في 11 أغسطس 2023 قبالة سواحل سيدني الأسترالية. وفي العام الماضي أجرت الهند تدريبات مشتركة مع الجانب الأمريكي، بولاية "أوتراخاند" على بُعد نحو 100 كم من الحدود المتنازع عليها مع الصين.
واستفادت الهند من ذلك التوتر في تعزيز الشراكة التكنولوجية مع الجانب الأمريكي على هامش "زيارة الدولة" التاريخية في يونيو 2023، التي خصَّ بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي تجاوزًا للبروتوكول، كان من محصلتها تعميق التعاون التقني ونقل التكنولوجيا الدفاعية للهند في صناعة محرك طائرات شركة جنرال إلكتريك الأمريكية من طراز "إف-414" بالتعاون مع شركة "هندوستان أيرونوتيكس" الهندية، لدعم صناعة المقاتلات المحلية.
وفي سياق فك الارتباط بقطاع التكنولوجيا الصيني الذي تعتمد عليه الهند، حظرت نيودلهي العام الجاري استيراد أي مكونات تكنولوجية من دول الجوار البري مع الهند، تستخدم في صناعة المروحيات المسيّرة العسكرية، في إشارة ضمنية للصين، حسب صحيفة جنوب الصين الصباحية.
وعلى الجانب الآخر تنخرط الصين في محادثات حدودية مع مملكة بوتان التي تتشارك حدودًا ثلاثية مع بكين ونيودلهي، في إجراء موازٍ للحوار الصيني الهندي بما يسهم في تعزيز الرؤية الصينية لتهدئة التوترات وحلحلة النزاعات الحدودية مع دول الجوار.
وفي المقابل لا تزال الهند تحتفظ بخيار اللعب بصورة منفردة عن سياق التكتلات الجيوسياسية في كثير من تحركاتها، على ضوء العلاقات الحيوية التي يحتفظ بها كلا البلدين مع الحليف الروسي الذي يمثل حجر الزاوية في استقرار التفاهمات بين البلدان الثلاث في كثير من المنظمات والتكتلات الإقليمية والدولية مثل منظمة شنجهاي للتعاون وتحالف بريكس.
تعاون ضروري
تُظهر المؤشرات السابقة أهمية إظهار الندية في العلاقات بين البلدين اللذين على الرغم من خلافاتهما الحدودية، إلا أنهما يتشاركان عددًا من الأهداف المشتركة والمصالح المتشابكة وأحيانًا المتعارضة، التي لا يمكن معالجتها بإشعال التوترات وتوسيع الهوة بين الجارتين النوويتين، ويمكن إبراز تلك المصالح على النحو التالي:
(&) التعددية القطبية: إن الحاجة إلى تعددية قطبية تعيد صياغة التوازنات العالمية وتعزز مصالح الجنوب العالمي تمثل شعارًا مشتركًا لكلا البلدين، وخاصة أن الصين والهند من القوى الفاعلة في الاقتصاد العالمي وتمثلان حضارتين فريدتين ولا تنتميان إلى معسكر الغرب ثقافيًا أو حتى سياسيًا كحال اليابان.
تجعل تلك العوامل بكين ونيودلهي حريصتين- بدرجات متفاوتة- على استمرار التعاون مع روسيا، بينما تختلف وسائل وأدوات كلا البلدين، ففيما تعزز الهند نهجًا متعدد الشراكات والتحالفات يستند في الغالب لدورها التاريخي كأحد أقطاب "حركة عدم الانحياز"، تسعى الصين لفصل دعمها وشراكتها "اللامحدودة" مع روسيا، عن موقفها من الأزمة الروسية الأوكرانية والعلاقات مع أوروبا، بينما تكافح لمواجهة الاحتواء الأمريكي في الفضاءات التكنولوجية والأمنية والعسكرية بتفاعلات خشنة مع واشنطن وحلفائها الإقليميين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
(&) مواجهة هيمنة الدولار: يتفق البلدان اقتصاديًا بحد أدنى، على مواجهة هيمنة الدولار الأمريكي على المعاملات الدولية، في ظل اتساع المخاوف من العقوبات الاقتصادية في صورتها "الإيجابية" التي تفرضها الولايات المتحدة على خصومها الدوليين، أو العقوبات "السلبية" الممثلة في أزمة السيولة التي تواجهها العديد من الأسواق الناشئة في أعقاب موجات التشديد النقدي ورفع أسعار الفائدة الأمريكية. وعلى الرغم من التكهنات باتخاذ خطوات في قمة بريكس المقبلة في هذا الصدد إلا أنها من غير المحتمل أن تتجاوز سقف تخفيف ضغوط العملة الأمريكية على الأسواق الناشئة عبر تعزيز التبادل بالعملات المحلية.
إجمالًا؛ يشير الانفتاح الأخير بين الهند والصين على صعيد المباحثات الدبلوماسية والعسكرية إلى رغبة البلدين في تجاوز الخلافات التي أثرت على علاقاتهما بالسلب، في ظل حاجة بكين ونيودلهي وغيرهما من الدول الناشئة لتعزيز التعاون الاقتصادي لتجاوز التحديات الراهنة، ما يدعم على الجانب الآخر دورهما على الساحة الدولية من خلال قمة تجمع بريكس، وكذلك قمة مجموعة العشرين التي ترأسها الهند.