الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

أحزمة النار.. مرتكزات الخطر في خارطة الحدود الملتهبة في العالم

  • مشاركة :
post-title
بناء سياج حدودي للتصدي للهجرة غير الشرعية على الحدود البولندية البيلاروسية

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

شكّلت الحدود السياسية التي أعقبت الحروب الاستعمارية والحربين العالميتين الأولى والثانية، أحزمة لهب في بعض المناطق التي تتقاطع فيها الجغرافيا السياسية مع تكوينات إثنية متشابهة، أو توزيعًا غير متناسب للموارد على الجانبين، وهو ما يتعزز في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم باتجاه موازين القوى العالمية نحو آسيا وبروز مناطق الفراغ الاستراتيجي وعلى رأسها القارة الإفريقية، على الرغم مما تزخر به من موارد باتت محط أنظار القوى العالمية وخاصة الصين وروسيا.

متغيرات متداخلة

تمثل أزمات الحدود أحد أبرز مهددات السلم والأمن خلال الفترة الراهنة من عُمر النظام الدولي، مع استدعاء الخطاب القومي التاريخي على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية، فيما تشهد حدود منطقة الساحل الإفريقي داخليًا وخارجيًا حالة من السيولة الأمنية تتفاقم خلال 12 عامًا من الأزمات في مالي وليبيا، قبل أن تنتقل تلك العدوى إلى دول مثل بوركينا فاسو وتشاد، كما كانت التوترات بين الكونغو الديمقراطية ورواندا أحد عوامل تفاقم عدم الاستقرار في أجزاء من شرقي الكونغو.

(*) ممرات آمنة: تمثل البيئة الأمنية غير المستقرة فرصة لنشاط عصابات التهريب والجريمة المنظمة والعابرة للحدود، خاصة إذا التقت بمناطق "الترانزيت الجغرافي" أو دول العبور لأنشطة الهجرة التي تربط بين البلدان المصدّرة للهجرة غير الشرعية إلى الوجهات الرئيسية للمهاجرين، مثل موقع ليبيا بين إفريقيا وأوروبا جنوب المتوسط، ما دعا للمطالبة ببناء جدار فاصل خارجي بطول حدود دول الاتحاد.

ونتيجة للأزمة التي اندلعت عقب مظاهرات 17 فبراير 2011 مرورًا بمقتل الزعيم الليبي معمر القذافي، ظلت الأراضي الليبية مقصدًا رئيسيًا للمرتزقة الأجانب وجماعات المعارضة المسلحة في دول الجوار الجنوبي، فضلًا عن توفير مخزون هائل من الأسلحة إلى تلك الجماعات والحركات المسلحة، وعلى رأسها التنظيم القاعدي الإرهابي "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" وتنظيم "ولاية الساحل" التابع لتنظيم "داعش" الإرهابي.

(*) صراع النفوذ: تمثل الأزمة على الحدود البولندية-البيلاروسية نموذجًا للصراع بين روسيا من جهة والغرب من جهة أخرى، بعد ما دعّمت مينسك جهود العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عبر السماح بنشر القوات الروسية على الحدود البيلاروسية الأوكرانية للضغط على العاصمة كييف مع اندلاع الحرب في 24 فبراير 2023. المخاوف الغربية من بيلاروسيا جاءت في ظل دعم أمريكا والقوى الأوروبية لمظاهرات المعارضة البيلاروسية في 2020 ضد من اصطُلح على تسميته غربيًا بـ"الدكتاتور الأخير في أوروبا" في إشارة للرئيس ألكسندر لوكاشينكو، الذي اتهمته المعارضة بتزوير الانتخابات الرئاسية. وفي ظل تخوف موسكو من تكرار سيناريو الاحتجاجات الأوكرانية 2014.

وفي نوفمبر 2021، قبيل أشهر قليلة من اندلاع الحرب، برز ملف المهاجرين على رأس قضايا الخلاف بين مينسك ووارسو، في أعقاب موجات المهاجرين الراغبين في دخول حدود الاتحاد الأوروبي من بيلاروسيا عبر الحدود البولندية.

ونتيجة لدعم روسيا لمينسك في تلك المواجهات، نقلت وكالة "رويترز" في 27 فبراير 2023، عن زعيم منظمة بايبول "BYPOL" البيلاروسية المعارضة ألكسندر أزاروف، أن المجموعة التي تستضيف وارسو قادتها وتمثل عددًا من ضباط ومنتسبي الشرطة السابقين، استهدفت بطائرات مسيّرة، طائرة المراقبة والإنذار المبكر الروسية من طراز "بريف إيه-50 Beriev A-50" في مطار ماتشوليشتشي العسكري قرب العاصمة مينسك.

مهاجرين على الحدود البولندية-البيلاروسية

وفي إفريقيا الوسطى مثّل تدخل مجموعة فاجنر شبه العسكرية إلى جانب الرئيس فوستين تواديرا في 2018 نقطة تحول جوهرية في تحالفات بانجي الخارجية، فعلى الرغم من تأييد باريس القوة الاستعمارية السابقة لسلطة الرئيس تواديرا، إلا أن إفريقيا الوسطى بعد نزاع عرقي وطائفي دموي بين ميليشيا "السيليكا" المسلمين وميليشيا "أنتي بالاكا" اشتعلت شرارته في البداية بصراع على الموارد، رأت أهمية الاستعانة ببديل كفء لإحلال الدور الفرنسي الذي لم يعد فعالًا في مواجهة الاضطرابات.

(*) صراع الموارد: تعد وفرة المعادن النفيسة والمواد الأرضية النادرة محفزًا رئيسيًا للصراع في شرق القارة الإفريقية، ففي السودان مثّلت سيطرة بعض الحركات المسلحة على مناجم للذهب في جبل مرة بجنوب دارفور مثل حركة تحرير السودان-جناح عبد الواحد نور، التي لم تنضم لاتفاق سلام جوبا 2020، وتتعاون مع ميليشيات عربية لإدارة مناجم الذهب في تلك المنطقة التي تسيطر عليها الحركة، حسب تقرير خبراء الأمم المتحدة بشأن السودان 2023.

وترتبط الاضطرابات ونشاط الحركات المسلحة -تشمل 113 حركة مسلحة تتراوح بين مجموعات صغيرة ومجموعات نظامية أفضل تنظيمًا وعلى رأسها "حركة 23 مارس"- في شرقي جمهورية الكونغو الديمقراطية بالنزاع على المعادن النفيسة، وساهم ضعف الرقابة والشفافية للشركات الكبرى في إنعاش الإنفاق على أنشطة الحركات المسلحة في شرق الكونغو التي تعتمد على بيع معادن مثل الذهب والقصدير في الفترة من 2014 إلى 2021، حسب تقرير مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي "U.S. GAO" في سبتمبر 2022.

(*) خلافات حدودية: مثّلت الأزمة الروسية الأوكرانية منذ تغيير نظام الرئيس يانوكوفيتش 2014، بداية بروز التوترات الحدودية بين موسكو وكييف، ففي أعقاب الإطاحة بيانوكوفيتش قدّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رواية تدعم تبعية شبه جزيرة القرم لروسيا تاريخيًا، وجرى إلحاقها بأوكرانيا في عهد الزعيم السوفييتي الأسبق نيكيتا خروتشوف، وذلك قبل أن يعلن الاعتراف بسلطتي "دونيتسك" و"لوجانسك" الشعبيتين المعلنتين من جانب واحد في شرق أوكرانيا قبيل اندلاع العملية العسكرية الخاصة في 24 فبراير 2023، وضمهما إلى جانب منطقتي خيرسون وزبوريجيا، إلى روسيا الاتحادية باعتبارها "أراضي تتبع روسيا".

وتشهد الأزمة بين صربيا وكوسوفو على معضلة الدول متعددة القوميات في أعقاب انهيار عصر الإمبراطوريات الكبرى، والدول الأممية على غرار الاتحاد السوفييتي للجمهوريات الاشتراكية واتحاد يوغوسلافيا، التي نشطت في تسعينيات القرن الماضي لتخلف صراعًا بين بلجراد التي ترفض الاعتراف باستقلال بريشتينا عنها، ومنذ تدخل حلف الناتو 1998-1999، تتخذ العلاقة بين الجانبين دورات من الهدوء الحذر والتوتر المتصاعد على خلفية وجود أربع مقاطعات تقطنها أغلبية صربية شمال كوسوفو وتحظي بما يشبه الحكم الذاتي، وترغب بريشتينا في فك ارتباطها عن بلجراد، عبر إعادة تنظيم تلك المناطق مثل تعيين قيادات شرطية من الأغلبية الألبانية في تلك المناطق وفرض لوحات سيارات وطنية في ديسمبر 2022، وهو ما ترفضه تلك الأقلية الصربية ما أشعل سجالًا بين الجانبين أدى للتهديد بالحرب.

وفي جنوب القوقاز، اشتعلت المواجهات بين أرمينيا وأذربيجان في 2020، حول مساعي الأخيرة للسيطرة على جيب "ناجورنو قره باخ" الذي تقطنه أغلبية أرمينية تعرف نفسها باسم "جمهورية أرتساخ" الموالية لأرمينيا، ورغم اتفاق وقف إطلاق النار الموقع برعاية روسية لا يزال التوتر سائدًا في إطار مساعي باكو لقطع ممر لاتشين الرابط بين أرمينيا والانفصاليين، ومن ثمّ تعرض أرمينيا تسليم الإقليم مع ضمان حقوق الأقلية الأرمينية، فيما تتطلع أذربيجان لاستكمال السيطرة على قره باخ دون تقديم تنازلات تنتقص من سيادتها على الإقليم.

دول منطقة الساحل الإفريقي

(*) المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في إفريقيا: بالإضافة إلى ضعف الروابط السياسية والانتماء للدول الوطنية وهويتها العابرة للانتماء الأولية القبلية والعرقية، اكتسب الانقسام بين القبائل من غرب السودان وحتى مالي وبوركينا فاسو على أساس اختلاف التركيبة العرقية بين طوارق وأصول عربية ومجموعات عرقية أخرى، وتطابقت في تلك التركيبة أنشطة الرعي للبدو الرحّل بالمنطقة من جهة والسكان الأكثر استقرارًا وارتباطًا بأراضيهم من المزارعين.

وعلى امتداد غرب السودان وتشاد والنيجر، يمثل التنافس بين القبائل على أساس عرقي محفزًا لامتداد آثار الصراع في أي من تلك البلدان مع وجود منطقة مفتوحة ممتدة من الصحراء الليبية شمالًا، وشظايا الحرب السودانية شرقًا وصولًا للاضطرابات والأزمات المحتملة على امتداد منطقة الساحل غربًا في حالة تدخلت قوات مجموعة إيكواس في النيجر لإعادة النظام الدستوري، أو أعلنت مجموعات الطوارق تمردها على سلطة المجلس العسكري لاستعادة حكم أول رئيس من أصل عربي يحكم البلدان في تاريخها.

هذه المخاوف يمكن استقراؤها من خلال مواقف الأطراف من الأزمة في السودان، ففي يونيو الماضي ألقت سلطات أنجامينا القبض على المعارض حسين الأمين تشاو-تشاو على خلفية دعمه للدعم السريع في الأزمة السودانية على أساس عرقي، واتهام الجيش السوداني لقيادة "الدعم السريع" بتجنيد مقاتلين أجانب للسيطرة على العاصمة الخرطوم.

كما كانت تلك العوامل العرقية والحدود السائلة سببًا في اغتيال الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي، إثر مقتله خلال وجوده على الجبهة لمتابعة سير المواجهات مع عناصر المعارضة المسلحة في جبهة الوفاق والتغيير بزعامة محمد مهدي علي المنتمي لقبائل القرعان العربية، وقد وجدت الجبهة موطئ قدم في الصحراء الليبي بفعل الأزمة التي ضربت الجارة الشمالية منذ فبراير 2011.

وكان لانعكاسات تغير المناخ وانحسار مياه بحيرة تشاد الواقعة على الحدود بين تشاد والنيجر ونيجيريا والكاميرون أثرًا في تزايد المواجهات بين القبائل العاملة بنشاط الرعي الصيد على حساب القبائل التي تعتمد على الاستقرار في المناطق الزراعية وبالتالي تقليص حجم الموارد المتاحة التي يتقاسمها عدد أكبر من السكان، وقاد الشعور بالتهميش لنشوء حركات انفصالية على أسس عرقية تلاقت مصالحها في بعض الأحيان مع عناصر متطرفة وجماعات إرهابية مثل حركة تحرير أزواد في مالي.

ويحفز تداخل التركيبة العرقية بين دول منطقة الساحل من تأثير الدومينو في تمدد أي خلخلة أمنية عبر دولها بأثر تتابعي، فمع شعور المؤسسات النظامية في تلك الدول بضعف السلطة السياسية أحيانًا أمام انتشار الإرهاب أو بروز الحركات الانفصالية أو تطابق العاملين معًا في الإطاحة بالسلطات الحاكمة، وهو ما حدث في مالي التي يزيد عمر الأزمة فيها على 10 أعوام خاصة مع تحالف حركة انفصالية (أزواد شمال مالي) مع تنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي" الإرهابي في شمال البلاد، تبعه تدخل عسكري فرنسي، ومع عدم نجاعة القوة الفرنسية المسئولة عن مكافحة التمرد وما أعقبه من انتشار للعمليات الإرهابية بطول منطقة الساحل.

اختلال موازين القوى:

يشير توسع أزمات الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وبيلاروسيا وبولندا شمالًا، إلى جنوب القوقاز شرقًا، ومنطقتي شرق إفريقيا والساحل الإفريقي جنوبًا إلى بروز حالة عدم يقين هيكلي في لحظة تحول واسعة النطاق، ولا يمكن قصرها على التفاعلات المحسوبة والمخططة للقوى الكبرى في صراعها على الهيمنة والنفوذ، وهو ما يمكن التدليل عليه بتفجر الصراع مجددًا في منطقة نفوذ تقليدية لروسيا في جنوب القوقاز؛ نظرًا لموقعها المحوري بين ثلاثة مشروعات جيوسياسية وهي مبادرة الحزام والطريق، وإحياء الروابط بين أنقرة والعالم التركي في آسيا الوسطى، ومشروع أوروبا الجيوسياسية.

وينطبق ذلك على "الحالة الساحلية" التي اعتمدت بصورة كبيرة على الدور الأمني والجيوسياسي الفرنسي الآخذ في الخفوت، وعدم وجود مسار بديل لإحلال نفوذ باريس يتعامل مع تعقيدات البيئة الاجتماعية السياسية لدول المنطقة، ويخلق نواة مركزية مستقرة قادرة على حفظ السلم الإقليمي ومواجهة السيولة الأمنية في حدود دول المنطقة التي تمتد إلى سواحل أوروبا، في ظل مخطط مد أنبوب الغاز العابر للصحراء من نيجيريا إلى النيجر وصولًا لسواحل الجزائر التي طورت منذ العام الماضي بنيتها التحتية لإنتاج وتصدير الطاقة عبر خط ترانسميد الرابط بينها وبين إيطاليا بشراكات مع أوكسيدنتال الأمريكية وإيني الإيطالية وتوتال الفرنسية، بقيمة استثمارات بلغت 4 مليارات دولار، فيما تقدر الجزائر إجمالي الاستثمارات المطلوبة لتفعيل الربط مع خط الصحراء بنحو 13 مليار دولار.

وفي ظل ذلك المشهد المعقد في منطقة الساحل يمكن للفاعلين من غير الدول مثل التنظيمات الإرهابية المتنافسة أن تجد ساحة خصبة للتمدد في ذلك الفضاء الاستراتيجي عبر إنشاء جيوب لها في الامتدادات الأكثر هشاشة، مثل المناطق الحدودية التي تمكنها من البقاء كمزعزع للاستقرار، ومن غير المتصور أن تملء روسيا ذلك الفراغ في ظل محدودية الموارد ورفض النظام الإقليمي القائم للدور الروسي المحتمل عبر "فاجنر".

وفي المقابل يظل الدوران الأمريكي والصيني هما الأقدر على ترميم أو إعادة بناء نظام إقليمي للمنطقة واحتواء المؤسسات الأمنية والعسكرية فيها، استغلالًا لطبيعة المنطقة الغنية بالموارد والمهمة لأمن واستقرار أوروبا رغم تعقيد المتغيرات الاجتماعية والإثنية فيها.

وإجمالًا؛ تعبر أزمات الحدود الملتهبة عن لحظة تحول حرج يمر بها النظام الدولي مع بروز المعضلة الأمنية والنزوع لسباق التسلح التقليدي والنووي، وإنهاك جميع الأطراف الدولية من نمط الحروب بالوكالة، ما يخلق مناطق فراغ تعزز من حالة عدم الاستقرار في تلك المناطق.