لا تزال الأراضي الباكستانية وتحديدًا المناطق المتاخمة للحدود مع أفغانستان، تعاني خطر الإرهاب الذي يستهدف أمنها واستقرارها، إذ لا يتوانى تنظيم "ولاية خراسان" التابع لتنظيم "داعش" الإرهابي المعروف اختصارًا بـ"داعش خراسان" عن تنفيذ تفجيرات انتحارية بين فترة وأخرى، بهدفين، أولهما إثبات أن "داعش" الإرهابي لا يزال مؤثرًا داخل مختلف البلدان الآسيوية، ثانيهما، محاولة التنظيم الرامية إلى إقامة دولة مزعومة. ولمواجهة ذلك، ينبغي على الحكومة الباكستانية وضع استراتيجية فعّالة تكمن في القضاء على الملاذات الآمنة للجماعات الإرهابية المنتشرة في البلاد.
دلالات التوقيت
وفي ضوء ما تقدم، فقد أعلن تنظيم "داعش" الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الإرهابي الذي شهدته بلدة خار بشمال غرب باكستان، 31 يوليو الماضي، الذي أتى بالتزامن مع جملة من التطورات شهدتها الدولة الآسيوية خلال شهري يونيو ويوليو 2023، أبرزها ما يلي:
(&) تجمع سياسي لحزب إسلام سياسي باكستاني: أعلنت "وكالة أعماق الإخبارية" التابعة لتنظيم "داعش" الإرهابي في بيان على موقع "تليجرام"، مساء 31 يوليو 2023، مسؤوليته عن التفجير الانتحاري الذي استهدف تجمعًا سياسيًا لنحو 400 عضو في حزب "جمعية علماء الإسلام" في بلدة خار بمحافظة باجور شمال غرب باكستان والقريبة من الحدود مع أفغانستان، بعد قيام انتحاري بتفجير سترته الناسفة وسط هذا الحشد الكبير، وهو التفجير الذي نجم عنه وفقًا للإحصائيات الأخيرة، وقوع 56 قتيلًا بينهم 23 تقل أعمارهم عن 18 عامًا، وإصابة نحو 200 شخص، وفقًا لما أعلنه ناصر ساتي، قائد الشرطة الباكستانية، في بيان له.
(&) استهداف الجيش الباكستاني لقيادي بتنظيم "داعش" الإرهابي: يأتي هجوم "داعش خراسان" الإرهابي بعد نحو شهر من إعلان الجيش الباكستاني، 26 يونيو الماضي، مقتل القيادي في تنظيم "داعش" الإرهابي "شفيع الله واحد" وثلاثة مسلحين آخرين كانوا رفقته، خلال غارة شنتها القوات الباكستانية على مخبأ للمتشددين في منطقة باجور بإقليم خيبر بختونخوا، الواقع بالقرب من الحدود مع أفغانستان، وأسفرت هذه العملية الأمنية أيضًا عن مصادرة عدد من الأسلحة والذخائر التي كانت بالمخبأ.
(&) هجوم إرهابي على نقطة تفتيش أمنية بمقاطعة وزيرستان: بعد أيام قليلة من نجاح الأمن الباكستاني في قتل قائد محلي لتنظيم داعش وثلاثة مسلحين، وقع هجوم إرهابي في 5 يوليو الماضي، إذ فجر انتحاري سيارة مفخخة كان يستقلها بالقرب من نقطة تفتيش أمنية بمقاطعة شمال وزيرستان القبلية، الواقعة قرب الحدود مع أفغانستان، وهو ما نجم عنه مقتل ثلاثة جنود باكستانيين وإصابة مثلهم من المدنيين.
(&) اجتماع إيراني باكستاني صيني لمكافحة الإرهاب: يأتي الهجوم الإرهابي الأخير لتنظيم "داعش" الإرهابي، بعد نحو شهر ونصف الشهر على الاجتماع الأمني الثلاثي الأول، الذي عقد بوزارة الخارجية الصينية، 7 يونيو الماضي، وحضره مساعد وزير الخارجية المدير العام لشؤون جنوب آسيا في الخارجية الإيرانية "سيد رسول موسوي"، ومدير عام الأمن الخارجي في وزارة الخارجية الصينية "باي تيان"، والمدير العام لقضايا مكافحة الإرهاب في الخارجية الباكستانية "عبدالحميد خان"، واتفق المجتمعون على ضرورة تعزيز آلية التشاور بينهم خاصة بمجالي الأمن ومكافحة الإرهاب وتكثيف التعاون المشترك لقمع الإرهابيين العابرين للحدود.
تداعيات الهجوم
بالإضافة لما تقدم، فقد نجم عن التفجير الانتحاري الذي استهدف تجمع أعضاء وقيادات حزب "جمعية علماء الإسلام" ذات الصلة الوثيقة بالحكومة الباكستانية، بعض التداعيات والإدانات على الصعيدين الإقليمي والدولي، فضلًا عن رد فعل باكستاني حازم على معاقبة المتورطين بهذا الهجوم، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
(*) تعهد باكستاني بمعاقبة المسؤولين عن الهجوم: أدان رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف بشدة هذا الهجوم الإرهابي، وتعهد بمعاقبة المسؤولين عنه. ومن جهته، فقد دعا رئيس حزب "جمعية علماء الإسلام" فضل الرحمن، بعد إدانته لهذه العملية الإرهابية، رئيس الحكومة الباكستانية وسلطات البلاد، في تغريدة على حسابه بموقع "إكس"، بسرعة فتح تحقيق فوري لمعاقبة الجهة المسؤولة عن هذه العملية الإرهابية، وتعزيز التدابير الأمنية في البلاد، قائلًا: "تلتفت أمتنا بأكملها إلى مؤسسات الدولة المسؤولة عن أمنها.. أين هم؟ متى سينصتون إلينا؟ هل سيضمدون جراحنا؟ متى سيؤسسون نظامًا يحمي أجيالنا المستقبلية؟".
ومن جهته، فقد علق المسؤول المحلي بحزب "جمعية علماء الإسلام" شمس الزمان، على هذا الهجوم، قائلًا: "الدولة فشلت في تحمّل مسؤولياتها. أعتقد أن الدولة فشلت بغض النظر عن الحكومة القائمة".
(*) إدانات إقليمية ودولية موسعة: أعلن عدد من دول العالم رفضها الشديد للهجوم الإرهابي الذي استهدف بلدة خار، فقد أعربت كل من مصر والسعودية وقطر والكويت والإمارات في بيانات منفصلة لوزارات خارجيتها عن رفضهم القاطع لهذه الأعمال الإرهابية ولكل أعمال العنف التي تروع المواطنين، مؤكدين تضامنهم مع باكستان لمواجهة جرائم التطرف والإرهاب.
وعلى الصعيد الدولي، فقد جاءت فرنسا وأمريكا على رأس الدول التي أدانت هذا الهجوم الإرهابي، واعتبرت واشنطن أن "هذه الأعمال الإرهابية ليس لها مكان في مجتمع سلمي وديمقراطي"، وفقًا لما جاء في بيان لوزارة الخارجية الأمريكية، واعتبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي "جوزيب بوريل"، هذا الهجوم الانتحاري بأنّه "محاولة لإضعاف الديموقراطية".
إضافة لذلك، فقد أدانت حركة طالبان الأفغانية على لسان المتحدث باسم الحكومة ذبيح الله مجاهد،بشدة هذا الهجوم، معربًا عن تضامن أفغانستان مع الضحايا والمصابين.
(*) استهداف قوات الشرطة في جنوب غرب باكستان: بعد ثلاثة أيام على الهجوم الذي استهدف محافظة باجور، وقع هجوم جديد في 1 أغسطس الجاري، يشير إلى تصاعد موجة العنف بمختلف أنحاء الدولة الآسيوية؛ إذ أطلق مجموعة من المسلحين المجهولين النار على قوات الشرطة الباكستانية، التي تحرس مجموعة ميدانية تقدم التطعيم لملايين الأطفال ضد شلل الأطفال في مدينة كويتا، عاصمة إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان، ما أدى إلى مقتل "شرطيين"، وفقًا لما أعلنه ضابط الشرطة الباكستاني آصف نواز، في تصريحات صحفية، وحتى الآن لم تعلن أي جماعة مسؤوليتها عن هذا الهجوم، واستنكرت وزارة الصحة الباكستانية في بيان لها بشدة هذا الهجوم، معربة عن قلقها من أن يوثر على "الحملة التي تستهدف أكثر من 7.89 مليون طفل دون الخامسة في 61 منطقة مختارة من البلاد".
دوافع إرهابية
في ضوء التطورات سالفة الذكر، نلحظ أن التفجير الانتحاري لـ"داعش خراسان" الإرهابي هذه المرة، ركز على استهداف "جمعية علماء الإسلام" - حزب إسلام سياسي متشدد - يشترك معه في الأيديولوجيا الدينية والسياسية، وهو عكس المعتاد من تسليط التنظيم الإرهابي عملياته نحو القوات العسكرية والأمنية الباكستانية، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره وفق جملة من الدوافع يسعى "داعش" الإرهابي إلى تحقيقها، على النحو التالي:
(#) الضغط على الحكومة الباكستانية و"طالبان الأفغانية": إن توجيه "داعش" هجماته هذه المرة نحو حزب إسلام سياسي في باكستان، يعكس رغبة ملحة لدى التنظيم الإرهابي في الضغط على حركة طالبان الأفغانية، كون أن حزب "جمعية علماء الإسلام" وزعيمها "فضل الرحمن" ذات صلة وثيقة بحركة "طالبان" الأفغانية والباكستانية (يعتبرها "داعش" الإرهابي حركات منافسة له في آسيا)، فضلًا عن العلاقة الجيدة التي تجمع الجمعية الإسلامية بالحكومة الباكستانية، إذ إن "الرحمن" الذي نجا من العملية الإرهابية (لأنه لم يحضر الاجتماع) عضوًا في الائتلاف الحاكم بباكستان، ويتحالف حزبه السياسي مع الحزب الحاكم، الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، وسبق وتوسط "الرحمن" في محادثات بين الحكومة وحركة طالبان الباكستانية، ولذلك يوجه تنظيم "داعش" الإرهابي اتهامًا إلى الجمعية بالنفاق وخيانتها لمبادئها الإسلامية جراء علاقاتها مع الحكومة وطالبان، وفي ضوء ذلك قد يؤدي هذا الهجوم الإرهابي، خلال الفترة المقبلة، إلى تصاعد المواجهة بين "داعش خراسان" الإرهابي و"طالبان الأفغانية"، ما قد يؤثر على أمن واستقرار الدول الآسيوية، خاصة في المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان.
(#) عرقلة الانتخابات العامة في باكستان: تستعد الدولة الآسيوية لانتخاب برلمان جديد في أكتوبر 2023، وفقًا لما أعلنته لجنة الانتخابات الباكستانية، تأتي هذه الانتخابات بعد مرور إسلام آباد بأزمة سياسية بل واقتصادية شهدتها خلال عام 2022، خاصة عندما صوت البرلمان على سحب الثقة من رئيس الوزراء السابق "عمران خان"، الذي لم يهدأ ودفع بعناصره خلال الفترة الماضية للخروج في احتجاجات للإطاحة بحكومة "شهباز شريف"، وهو السبب في تنظيم "جمعية علماء الإسلام" لاجتماعات في جميع أنحاء البلاد لحشد المؤيدين للانتخابات المقبلة، وهو ما لا يريده تنظيم "داعش" الإرهابي، لذلك دفع بعناصره لتصعيد نشاطهم الإرهابي في الوقت الراهن، بهدف نشر الخوف والرعب في صفوف المواطنين، والزعم بأن البلاد تعاني خللًا أمنيًا وحالة من عدم الاستقرار، ما يدفع بتأجيل العملية الانتخابية وتهديد التحالف الحاكم الذي يضم حزب "جمعية علماء الإسلام"، وهو ما أوضحه تنظيم "داعش" الإرهابي في البيان الذي نشره إبان الإعلان عن مسؤوليته عن التفجير الانتحاري، قائلًا: "يأتي الهجوم في الإطار الطبيعي للحرب الدائرة التي أعلنها (التنظيم) ضد (الديمقراطية) كونها نظامًا مناقضًا للإسلام الحقيقي وتتعارض مع القانون السماوي".
(#) إعادة نفوذ "داعش" الإرهابي بالمناطق الحدودية: نلحظ أن أغلب الهجمات التي يشنها التنظيم الإرهابي موجهة إلى المناطق الحدودية مع أفغانستان، التي شهدت الفترة الأخيرة تزايدًا في الأنشطة الإرهابية وأغلبها في إقليم خيبر بختونخوا شمال غربي باكستان، ويرجع ذلك لرغبة التنظيم الإرهابي في فرض نفوذه وسيطرته على بعض المناطق الباكستانية، خاصة بعدما نجحت السلطات في إسلام آباد، خلال السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ إطلاقها لـ"عملية التطهير العسكرية" في 2014، التي ركزت على شن عمليات واسعة في الحزام القبلي على طول الحدود الأفغانية التي كانت لسنوات طويلة ملاذًا آمنًا للعناصر الإرهابية، في سيطرت القوات الأمنية الباكستانية على سبعة أقاليم نائية محاذية لأفغانستان، من بينها إقليم "باجور" الذي كان بمثابة الملاذ الآمن للمتطرفين، وتزايدت هجمات "داعش" الإرهابي أيضًا بعد سيطرة حركة "طالبان" الأفغانية على الحكم في أفغانستان، أغسطس 2021، ومن وقتها وبعض الجماعات الإرهابية يسعون إلى السير على خطى طالبان.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن التفجير الانتحاري الذي شهدته بلدة خار، الواقعة على بعد 45 كم من الحدود الأفغانية، لن يكون الأخير، ومن المتوقع أن يصعد "داعش خراسان" الإرهابي وأيضًا "طالبان باكستان" من أعمالهم الإرهابية خلال الفترة المقبلة، بهدف إضعاف القوات الأمنية الباكستانية ونشر حالة من عدم الاستقرار والقول إن البلاد تعاني خللًا أمنيًا، وهو الأمر الذي قد يستغله بعض السياسيين الباكستانيين لصالحهم، خاصة الساعين للإطاحة بالحكومة الباكستانية الحالية، حتى يتسن لهم العودة مجددًا إلى المشهد السياسي، وعليه، فإن السلطات الباكستانية عليها وضع رؤية استراتيجية فعّالة تركز على مكافحة أعمال العنف والإرهاب في البلاد، بتكثيف التعاون مع الدول والمنظمات الإقليمية والدولية المعنية بهذا المجال.