في خضم تفاقم الأعمال الإرهابية التي تشهدها عدد من دول المنطقة العربية والآسيوية فضلًا عن التوترات الأمنية العالمية جراء الحرب الروسية الأوكرانية؛ فقد اتفقت كل من الصين وباكستان وإيران على إجراء محادثات ومشاورات منتظمة لمكافحة الإرهاب عقب اجتماعهم الأمني الثلاثي الأول من نوعه حول قضايا الأمن الإقليمي الذي عقد بمقر وزارة الخارجية الصينية بالعاصمة بكين في 7 يونيو 2023، بحضور كل من مساعد وزير الخارجية المدير العام لشؤون جنوب آسيا في الخارجية الإيرانية "سيد رسول موسوي"، ومدير عام الأمن الخارجي في وزارة الخارجية الصينية "باي تيان"، والمدير العام لقضايا مكافحة الإرهاب في الخارجية الباكستانية "عبدالحميد خان".
وناقش المسؤولون الثلاثة خلال هذا الاجتماع، آلية التشاور بينهم في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب من خلال بحث الوضع الإقليمي لمكافحة الإرهاب والقمع المشترك للإرهابيين العابرين للحدود، كما بحث جلسات ثنائية على هامش الاجتماع اتفق خلالها على تعزيز التعاون الثنائي لمكافحة الإرهاب، واتفقا على عقد هذه المشاورات الثلاثية بصفة مستمرة.
سياق التوقيت:
تجدر الإشارة إلى أن الاجتماع الأمني الثلاثي الذي استضافته العاصمة الصينية بكين، يحمل جملة من الدلالات، يمكن إبرازها على النحو التالي:
(*) نفوذ صيني أمريكي لتعزيز وجودهما الأمني إقليميًا ودوليًا: يأتي هذا الاجتماع قبل يوم واحد من "اجتماع التحالف الدولي لمحاربة داعش" الذي عقد في 8 يونيو الجاري بالعاصمة السعودية، الرياض، بحضور وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن"، وكان اللافت في الأمر، أن المؤتمر الصحفي الذي عقد بين وزير الخارجية السعودي "فيصل بن فرحان" ونظيره الأمريكي، على هامش الاجتماع، تطرق إلى الحديث عن علاقة المملكة مع الصين من جهة، وأمريكا من جهة أخرى، حيث شدد الوزير السعودي على أن بكين شريك مهم للمملكة ولجميع دول المنطقة، وأنها في الوقت ذاته ستواصل تطوير علاقاتها العسكرية والأمنية مع واشنطن، وعلى الجهة المقابلة، أكد الوزير الأمريكي أن "بلاده لا تخير أحدًا بينها وبين بكين.. وملتزمة بتعزيز الشراكة الاستراتيجية مع دول المنطقة".
(*) تحالف بحري مشترك لتعزيز الأمن والاستقرار بالمنطقة: لقد كانت الصين من أوائل الدول المرحبة بإعلان قائد القوات البحرية للجيش الإيراني "شهرام إيراني" في 3 يونيو الجاري، عن تشكيل تحالف بحري مشترك بين السعودية وإيران والإمارات وقطر والبحرين والعراق وباكستان والهند، وجميع دول شمال المحيط الهندي خلال الفترة المقبلة؛ واعتبرت الخارجية الصينية في بيان لها، أن هذا التحالف سيعزز الأمن والاستقرار في المنطقة من خلال التعاون المتبادل، وهذا الإعلان قد يكون سببًا في اتجاه بكين لدعوة كل من طهران وإسلام آباد، لعقد تحالف مماثل يركز بشكل خاص على مكافحة الإرهاب داخل المنطقة وخارج حدود بلادهم.
(*) نشر مبادرة الأمن العالمي الصينية على نطاق أوسع: كشف المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية "وانج وين بين" أن أطراف الاجتماع الثلاثي الذي عقد في بكين اتفقوا على إضفاء الطابع المؤسسي على المشاورات الأمنية الثلاثية لمكافحة الإرهاب"، وفي الوقت ذاته، أعلن أن "آلية التشاور " التي توصل إليها المجتمعون جزء من "مبادرة الأمن العالمي" الصينية GSI، وهي المبادرة التي أطلقها الرئيس الصيني "شي جين بينج" في فبراير الماضي، وتقوم على 6 مبادئ، بهدف تعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين، وتحسين الأمن العالمي، وتعزيز السلام الدائم والتنمية في العالم، والقضاء على أسباب النزاعات الدولية.
أهداف مشتركة:
في ضوء التطورات سالفة الذكر، يمكن القول إن حرص الصين على استضافة اجتماع مع كل من إيران وباكستان بشكل خاص في هذا التوقيت، يحمل جملة من الأهداف، يمكن توضيحها كما يلي:
(&) توسع آليات التعاون الأمني الصيني مع دول المنطقة: يعكس هذا الاجتماع رغبة الدولة الآسيوية في تعزيز وجودها العسكري والأمني والسياسي بجانب الوجود الاقتصادي على الصعيدين الإقليمي والدولي، إذ تأمل الصين في أن تسهم هذه المشاورات في خلق آلية مؤسسية أكثر عمقًا للتعاون طويل الأجل في مكافحة الإرهاب بين الدول الثلاث، بشكل يؤسس للتعاون المستقبلي في مجالات أمنية أخرى بين بكين وهذه الدول، ويتسع التعاون ليشمل دولًا أخرى، وبذلك تضمن بكين وجود موطئ قدم لها على الصعيد العسكري بدول المنطقة المجاورة، ويعد هذا الهدف الذي دفع الدولة الآسيوية إلى إضافة إيران لمحور مباحثاتها مع باقي دول آسيا خاصة المجاورين للحدود الإيرانية بشأن مكافحة الإرهاب، حيث كانت المباحثات الصينية حول مكافحة الإرهاب تقتصر في السابق على باكستان وأفغانستان، وقد كمان آخرها الحوار الخامس لوزراء خارجية الصين وأفغانستان وباكستان بالعاصمة الباكستانية إسلام آباد في مايو الماضي، لمناقشة التعاون في مكافحة الإرهاب.
(&) التصدي للجماعات المتشددة في أفغانستان: يهدف هذا الاجتماع إلى مكافحة الأعمال الإرهابية لبعض الجماعات المتشددة المنتشرة في الأراضي الأفغانية، خاصة بعد وصول حركة طالبان إلى الحكم في أغسطس 2021، وحرصت الصين بشدة على تعزيز التعاون مع الدول الآسيوية بعد أن استهدف تنظيم "داعش خراسان" (فرع داعش الإرهابي في أفغانستان) في ديسمبر الماضي، فندق صيني في العاصمة كابول كان يقطنه رجال أعمال ودبلوماسيين صينيين، ولذلك من مصلحة بكين مواجهة الوضع الأمني المتدهور في أفغانستان الذي يهدد مصالح المواطنين الصينيين لذين يعملون في مشاريع مبادرة الحزام والطريق بأفغانستان.
(&) مواجهة نشاط "طالبان باكستان" المناهضة للصين: بعد وصول حركة "طالبان" إلى الحكم في أفغانستان، انتشر التطرف والإرهاب بشكل متزايد بوسط جنوب آسيا، فعلى سبيل المثال، هناك حركة "تحريك طالبان" المعروفة أيضًا باسم "طالبان باكستان" التي تحاول هي الأخرى السير على نهج طالبان الأفغانية بالوصول إلى السلطة، لذلك تتصاعد أعمالها الإرهابية في الأراضي الباكستانية بين الفترة والأخرى، مستغلة معارضة رئيس الوزراء الباكستاني السابق "عمران خان" للسلطة الحاكمة، وخروج أنصاره بصفة مستمرة إلى الشوارع لإحداث حالة من الفوضى، فضلاً عن أن "تحريك طالبان" معروف عنها مناهضتها للصين ولأي مشاريع تدشنها الدولة الآسيوية في البلاد.
(&) تأمين المشاريع الاقتصادية للصين في جنوب آسيا: تريد بكين من خلال تعزيز التعاون الأمني الإقليمي مع إيران ودول جنوب آسيا الحدودية مع طهران، الحفاظ على مصالحها الاقتصادية بهذه البلدان، خاصة أنها أقامت خلال السنوات الأخيرة علاقات أوثق مع كل من إيران وباكستان، بما في ذلك توقيع اتفاقية تعاون مدتها 25 عامًا مع إيران وإنشاء الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان في إطار استراتيجية الحزام والطريق، وعليه، تريد بكين مواجهة أنشطة المتمردين بالدول الآسيوية الذين يجدون ملاذًا في إيران، ويهددون مصالحها الاقتصادية، وهو ما عبرت عنه بكين خلال الفترة الماضية، مشيرة إلى تخوفها من تدهور الأوضاع الأمنية في إقليم بلوشستان الباكستاني الذي يتمتع بموقع استراتيجي مميز وبأهمية اقتصادية وجيوسياسية كونه موضع التقاء بين أفغانستان وإيران وباكستان، وتمويل فيه بكين مشاريع اقتصادية بمليارات الدولارات، ولكن ما تتخوف منه الصين "الجماعات المسلحة البلوشية" المنتشرة بالإقليم وتهدد أمنه واستقرار المشاريع الصينية.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الهدف الرئيسي لتوجه الصين لتعزيز التعاون الأمني مع كل من إيران وباكستان، إضافة إلى أفغانستان، هو منافسة التحركات الأمريكية في المنطقة، ومواجهة التهديدات التي تهدد الأمن الإقليمي والعالمي، وتهدد مصالحها المتعددة بهذه البلدان، ومن المتوقع أن توسع الصين هذه الاجتماعات خلال الفترة المقبلة، بشكل ينجم عنه إقامة جبهة موحدة ضد الإرهاب، وستتجه أيضا إلى تدشين مناورات عسكرية تسهم في تعزيز عمليات مكافحة الإرهاب لدول آسيا.