في خضم تأكيد الحكومة الباكستانية خلال الأيام القليلة الماضية على إطلاق عملية عسكرية تُخلِص البلاد من العناصر المتشددة والإرهابية التي لا تتوقف عن استهداف المدنيين والعسكريين على حد سواء، شهدت الأراضي الباكستانية وتحديدًا في جنوب غربي البلاد منذ مطلع العام 2023، سلسلة من العمليات الإرهابية نفذتها جماعات متعددة، على رأسها تنظيم ولاية خراسان التابع لتنظيم "داعش" الإرهابي، وحركة طالبان الباكستانية "تحريك طالبان" و"جيش تحرير بلوشستان"، وهو الأمر الذي يكشف عن وجود حالة من "صراع النفوذ" لدى هذه الجماعات، مما يضع على الدولة الباكستانية عبء إعادة هيكلة أجهزتها الأمنية والعسكرية.
تمدد إرهابي:
تنوعت العمليات الإرهابية التي شهدتها منطقة جنوب غرب باكستان منذ مطلع العام الجاري، بين تفجيرات انتحارية واغتيالات لقوات الأمن والأقلية الشيعية، والتي أعلنت بعض الجماعات مسؤوليتها عنها، ومن أبرزها ما يلي:
(*) هجمات تنظيم "داعش خراسان" الإرهابي في إقليم بلوشستان: شنّ تنظيم "داعش" الإرهابي في 6 مارس الماضي، هجومًا انتحاريًا استهدف حافلة تقلّ عناصر من الشرطة الباكستانية في مقاطعة كاشي، على بعد 120 كيلومترًا جنوب شرق كويتا عاصمة إقليم بلوشستان (جنوب غربي البلاد)، وهو ما نجم عنه مقتل 9 شرطيين وإصابة 16 آخرين، وجاء هذا الهجوم بعد أيام قليلة من انفجار عبوة ناسفة في أواخر فبراير الماضي في سوق شعبية بمقاطعة برخان النائية بالإقليم، ونجم عنه مقتل 4 أشخاص وإصابة 12 آخرين، وقد أعلن تنظيم "داعش" الإرهابي في بيان عبر منصته الإعلامية "أعماق" أن هجوم مقاطعة كاشي نفذه أحد مقاتليه، الذي كان يستقل دراجة، وشنّ الهجوم فور رؤيته لحافلة أفراد الشرطة.
(*) تفجيرات "جيش تحرير بلوشستان" بمدينة كويتا: في 10 أبريل الجاري وقع تفجير بعبوة ناسفة بدائية، استهدف مركبة تابعة للشرطة في سوق بمدينة كويتا، جنوب غرب باكستان، ونجم عنه مقتل أربعة أشخاص وإصابة 15 آخرين، وكان المقصود من هذا التفجير سيارة القائم بأعمال مدير تحقيقات الشرطة، التي كانت متوقفة في منطقة "قندهاري بازار"، ولذلك كانت العبوة الناسفة مزروعة في دراجة نارية بالقرب من السيارة، وفقًا لما كشفته الشرطة الباكستانية، التي أعلنت أيضًا أن العبوة الناسفة التي تم تفجيرها بالتحكم عن بعد كانت تحمل أربعة أو خمسة كيلوجرامات من المتفجرات، وقد أعلن "جيش تحرير بلوشستان" الانفصالي مسؤوليته عن هذه العملية الإرهابية التي وقعت بعد أقل من 24 ساعة لهجوم شنّه مسلحون على أفراد أمن من فرقة النسر التابعة لشرطة كويتا، ونجم عنه مقتل اثنين من أفرادها وإصابة آخر، بينما نجحت الشرطة في قتل أحد منفذي الهجوم.
(*) استهداف "طالبان الباكستانية" لرجال الشرطة في كوتشلاك: في فجر 11 أبريل الجاري، أطلقت عناصر مسلحة النيران على قوات الأمن في منطقة كوتشلاك، التي تبعد نحو 20 كيلومترًا من مدينة كويتا، عاصمة إقليم بلوشستان، وهو ما نجم عنه مقتل 4 من رجال الشرطة جراء قنبلة أطلقها المسلحون، إلا أن أفراد الشرطة قاموا على الفور بتطويق المنطقة، وتحديدًا منزلًا بكوتشلاك حيث كان يختبئ الإرهابيون، ونجم عنه مقتل أحد المسلحين والعثور على أسلحة وذخيرة كانت بحوزته، وكشف المسؤول بمكافحة الإرهاب "اعتزاز غورايا"، أن "المسلحين ينتمون إلى حركة طالبان الباكستانية، المنفصلة عن طالبان الأفغانية، لكنها تتبع نفس النهج المتطرف".
دوافع متعددة:
ما تقدم، يطرح تساؤلًا حول الأسباب الكامنة وراء تزايد الهجمات الإرهابية في جنوب غرب باكستان، خاصة أنها لم تقتصر على تنظيم واحد، بل عدة جماعات انفصالية وإرهابية، وهي ما يمكن إبرازها على النحو التالي:
(&) استغلال الانقسامات الطائفية في جنوب غرب باكستان: إن الهدف الرئيس من تفاقم هذه الهجمات الإرهابية بتلك المنطقة تحديدًا، هو الانقسامات الطائفية بين الأغلبية السنية والأقلية الشيعية، والتي تفاقمت على مدار السنوات الماضية، ولذلك فإن شنّ عناصر "داعش خراسان" الإرهابي أو مقاتلين انفصالين هجمات على مدار سنوات عدة وبشكل مستمر على أفراد الشرطة والأقلية الشيعية بشكل خاص، يؤكد رغبة هذه التنظيمات في استغلال هذه الانقسامات المتزايدة وتأجيجها، بهدف تحقيق مصالحهم الإرهابية المزعومة، وهو السبب ذاته الذي يوضح سبب وجود عدة جماعات إرهابية وانفصالية بإقليم بلوشستان.
(&) السيطرة على المعادن والموارد النفطية بإقليم بلوشستان: إن وجود جماعات إرهابية عدة بمدن ومناطق جنوب غرب باكستان، وخاصة إقليم بلوشستان -أكبر الأقاليم الباكستانية إذ يبلغ عدد سكانه نحو 12 مليون نسمة- وتركيز عملياتها الإرهابية على استهداف رجال الشرطة؛ يرجع إلى رغبة هذه التنظيمات في استغلال المعادن والثروات النفطية الهائلة التي يتمتع بها هذا الإقليم، الذي يفشل سكانه في استغلالها لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية المتدهورة، لذلك تتعاون هذه الجماعات، وعلى رأسها حركة "تحريك طالبان"، في بعض الأحيان مع الجماعات المحلية بالإقليم للتسهيل من عملية نهب ثرواته، فضلًا أن هذا الإقليم يشهد مشروعات تعاون اقتصادي بين الصين وباكستان بتكلفة مرتفعة تتخطي الـ50 مليار دولار، وهو الأمر الذي ترفضه الجماعات الانفصالية بالإقليم، لرؤيتها أنها لن تحظى بأي استفادة من جراء هذا التعاون وغير قادرة عن الاستفادة من مواردها الطبيعية، ولذلك فمن الأفضل شن عمليات إرهابية تعيق أي مشروعات تعاون صينية باكستانية، ومن ثم منحها الفرصة للسيطرة وحدها على ثروات الإقليم.
(&) عرقلة الانتخابات المحلية بإقليم البنجاب (شرقي باكستان): تأتي هذه الهجمات بالتزامن مع دعوات قضائية موجهة إلى الحكومة الباكستانية برئاسة شهباز شريف، لإجراء الانتخابات المحلية في إقليم البنجاب (شرقي باكستان)، بحيث تعقد في 14 مايو المقبل، نظرًا لكون الحكومة ترفض ذلك، معلنة أن الانتخابات الإقليمية ستعقد مع الانتخابات العامة في أكتوبر المقبل، وهو الأمر الذي ترفضه تلك الجماعات لرؤيته أن انتخابات جديدة ومسؤولين جدد قد يسهم في وضع رؤي واستراتيجيات جديدة تحدٍ من نفوذ هذه الجماعات بالبلاد، ولذلك ترى أن مصلحتها المساهمة في عدم استقرار البلاد، وذلك بعرقلة أي محاولة لإبرام الانتخابات.
(&) الضغط على الحكومة الباكستانية للوصول إلى السلطة: إن من أبرز الأهداف التي تدفع هذه الجماعات لشن هجمات إرهابية بشكل مستمر وتسليط أعمال الاستهداف على العسكريين وقوات الأمن، إحداث اختراق أمني داخل البلاد، ودفع الحكومة إلى دعوة إحدى هذه الجماعات للجلوس على طاولة مفاوضات، للتوصل إلى اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار، وفي هذه الحالة تضع الجماعة الإرهابية شروطها، لأنها في هذا التوقيت سترى أن الحكومة ضعيفة وقواتها غير قادرة على القتال المستمر، وفي حال رأت الجماعة أن اتفاقها مع الحكومة لا يحقق أهدافها ورغبتها المستميتة في الوصول للسلطة، فإنها تنحسب من تلك الاتفاقيات وتعود للتصعيد مجددًا وهو ما سبق وقامت به حركة "طالبان باكستان"، التي تحلم بحكم البلاد منذ 2021، عندما وصلت طالبان الأفغانية إلى الحكم، في حين يشن "جيش تحرير بلوشستان" هجمات ضد القوات الأمنية، لإجبار الحكومة الباكستانية على استقلال الإقليم وإقامة دولة بلوشية مستقلة.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن "إسلام آباد" يقع على عاتقها مسؤولية وضع استراتيجية شاملة وفعالة تسهم في تعزيز أوضاعها الأمنية والتركيز على دحر الإرهاب داخل البلاد، وعدم منح الجماعات الإرهابية فرصة سواء للتعاون فيما بينها، أو الضغط على الحكومة لإجبارها على التفاوض معها لوقف إطلاق النار، إضافة إلى تكثيف التعاون مع دول المجتمع الدولي والمنظمات الدولية المعنية بمكافحة الإرهاب، للقضاء على الإرهاب المتغلغل داخل أرجاء باكستان.