انعقدت القمة الروسية الإفريقية بمدينة سانت بطرسبرج يومي 27 و28 من يوليو الجاري؛ لتعزيز الشراكة الاقتصادية بين الطرفين تحت شعار "من أجل السلام والأمن والتنمية"، بمشاركة 49 بلدًا إفريقيًا، و17 رئيسًا، فضلًا عن رئيسي مفوضية الاتحاد الإفريقي والبنك الإفريقي للاستيراد والتصدير.
يُذكر أن القمة الإفريقية الروسية، تعد الثانية التي تنظمها روسيا بعد القمة التي عقدت بمدينة سوتشي في عام 2019.
في ضوء ما سبق، يتناول هذا التحليل أبرز القضايا التي ناقشتها القمة، وحدود استفادة مصر منها.
قضايا محورية:
ناقشت القمة الإفريقية الروسية، مجموعة من المحاور التي تهتم بالشأن الإفريقي، يتمثل أهمها فيما يلي:
(*) استثمارات روسية في إفريقيا: أوضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عزمه دراسة أفكار جديدة لإقامة مشروعات متنوعة في إفريقيا، مُدعمًا هذا القرار بمجموعة من النجاحات التي تحققت في القارة، وهي أن معدلات الناتج القومي للقارة الإفريقية خلال الـ20 عامًا الماضية تفوق نظيرتها العالمية، كما أن الزيادة السكانية داخل القارة مثلت دافعًا أساسيًا لزيادة استثمارات روسيا فيها، إذ ذكر أن عدد السكان يقترب من 1.5 مليار نسمة، ويتزايد بالمقارنة بأي مكان في العالم، وهو ما سيُحقق الاستثمار الجيد في الطاقة البشرية داخل القارة الإفريقية.
(*) السيادة الغذائية: بعثت النقاشات التي دارت في هذه القمة الأمل داخل الدول الإفريقية، بعد قرار انسحاب روسيا من اتفاقية تصدير الحبوب في 18 يوليو الجاري، إذ طمأنت روسيا الدول الإفريقية أنها ستستمر في مدّهم بالمساعدات الغذائية مثل القمح والشعير والذرة، كما أكد الرئيس الروسي، في تصريح له، أنه "يعتزم تصدير 50 ألف طن حبوب لعدة دول إفريقية"، إذ أشار إلى تفوق روسيا في إنتاج الحبوب بالنسبة لأوكرانيا، بقوله إن روسيا أنتجت 165 مليون طن من الحبوب وتم تصدير 60 مليونًا منها، بينما أوكرانيا أنتجت العام الماضي 55 مليون طن من الحبوب، بلغت صادراتها منها 47 مليونًا، ويتضح من هذه الأرقام أهمية روسيا الكبيرة في سوق الحبوب العالمي، وتوطيد العلاقات معها سيعود بالنفع على جميع الدول الإفريقية.
(*) قضية الديون: تطرق الرئيس الروسي إلى مشكلة مهمة في الدول الإفريقية، وهي "تزايد الديون" التي تفاقمت بشكل كبير نتيجة التطورات الكبيرة التي حدثت في الاقتصاد العالمي، إذ بلغ الدين الخارجي للدول الإفريقية حسب تقرير البنك الدولي نحو 1.074 مليار دولار بنهاية عام 2021، وهو ما يوضحه الجدول رقم (1)، الذي يرصد أكبر 10 دول إفريقية من حيث الديون، فالتعرض لهذه الأزمة واقتراح حل لها سيعمل على إزالة عبء كبير عن الدول الإفريقية.
(*) استثمارات تكنولوجية: احتلت مناقشات الاستثمارات التكنولوجية والاقتصاد الرقمي أهمية كبيرة في القمة الروسية الإفريقية، وهو ما يرجح حدوث استثمارات مستقبلية كبيرة في مجال التكنولوجيا والتحولات الرقمية، الأمر الذي سيساعد على تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي داخل الدول الإفريقية بأكملها.
حدود الاستفادة:
تنعكس القمة الإفريقية الروسية على تحقيق مجموعة من العوائد الإيجابية على الاقتصاد المصري، يُمكن توضيحها على النحو التالي:
(&) زيادة الاستثمارات: حققت الدولة المصرية طفرة كبيرة في الاستثمارات الوافدة من مختلف الدول في الفترة الأخيرة، وركزت هذه القمة على توجيه العديد من الاستثمارات إلى مصر، ومن بينها تعزيز المشروعات الروسية بمحطة الضبعة النووية التي تنفذها شركة "روساتوم" وهو ما سوف يترتب عليه التسريع في تنفيذ هذه المحطة المهمة، بالإضافة إلى إنشاء منطقة صناعية روسية بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وهو ما يمكن أن تستفيد منه الدولة المصرية في المستقبل القريب، مع احتمالات أن تصبح مصر مركزًا رئيسيًا لنقل البضائع والمنتجات لكل الدول الإفريقية، وخاصة مع زيادة الاستثمارات في البنى التحتية.
(&) تحقيق الأمن الغذائي: تضررت الدولة المصرية وغيرها من الدول الإفريقية بشكل كبير عقب الأزمة الروسية الأوكرانية، بسبب ما نتج عنها من تقطع لسلاسل الإمداد العالمية، فاعتزام روسيا خلال القمة تعزيز صادراتها من الحبوب إلى الدول الإفريقية، سيُحقق للدولة المصرية قدرًا كبيرًا من الأمن الغذائي، خاصة مع السياسات والاستراتيجيات المختلفة التي تتخذها الدولة في الوقت الحالي لتحقيق هذا الهدف المهم.
(&) زيادة معدلات التبادل التجاري: من المحتمل أن تزيد القمة من معدلات التبادل التجاري بين الجانب المصري وبين الجانب الروسي، إذ انتعشت الواردات المصرية من روسيا خلال عام 2022 بنسبة 15,5%، لتبلغ 4,1 مليار دولار، عن قيمتها في 2021 والتي بلغت 3,6 مليار دولار، كما يتضح من الشكل رقم (1)، بالرغم من انخفاضها عن معدلاتها في عام 2018 الذي يعتبر من الأعوام التي شهدت طفرة كبيرة في الواردات المصرية من روسيا. ومن المتوقع أن تزداد بشكل أكبر بعد القمة، ومن كون واردات القمح تحتل نسبة كبيرة من الواردات المصرية من روسيا، إذ بلغت قيمتها 1.95 مليار دولار خلال عام 2022، فزيادة هذه الواردات سيعزز مخزون القمح داخل الدولة المصرية.
ومن ناحية أخرى ارتفعت الصادرات المصرية إلى روسيا بنسبة 21,6% في عام 2022، حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، بشكل يفوق ارتفاع الواردات، وهو ما يظهره الشكل رقم (2) لتبلغ قيمتها في 2022 نحو 595,1 مليون دولار، مقابل 489,6 مليون دولار في 2021، وهو ما يوضح الانتعاش الكبير في العلاقات التجارية بين البلدين، فمن المحتمل بشكل كبير أن تكون روسيا شريكًا أساسيًا في التبادل التجاري مع مصر بعد القمة الروسية الإفريقية، الأمر الذي يوضح الانعكاس الكبير لهذه القمة على الاقتصاد المصري خاصة، والدول الإفريقية عامة.
(&) زيادة التعاون في الطاقة المتجددة: صرح بوتين بأن هناك 30 مشروعًا مُستقبليًا للطاقة بمشاركة روسية في 16 دولة إفريقية، في مجالات الغاز والنفط والطاقة الكهربائية، من بينها مصر، فزيادة الاستثمارات الروسية داخل الدولة المصرية في مجال الطاقة المتجددة، سيحقق المزيد من المنافع الاقتصادية المتنوعة، منها توسيع القاعدة الإنتاجية لهذه المشروعات، وهو ما يعزز من مكانة مصر في أن تصبح مركزًا للطاقة المتجددة.
(&) تخفيف عبء الدين: من المحتمل أن تستفيد مصر من قرار الرئيس الروسي بتخصيص 90 مليون دولار إضافية إلى مخصصات تخفيف الديون الإفريقية، وقد ينعكس على عبء الدين في مصر، كما أن تنشيط الوجود الاستثماري الروسي داخل مصر سيعمل على توليد المزيد من الدخل، الذي سيخدم جزءًا كبيرًا من الدين المصري الخارجي.
(&) زيادة التدفقات النقدية: من المرجح أن تعمل الاستثمارات التي أُعلن عنها خلال القمة الروسية الإفريقية، على زيادة التدفقات الأجنبية بشكل كبير داخل الدولة المصرية، فمصر أصبحت دولة جاذبة للمزيد من الاستثمارات في مختلف المجالات، خاصة مجال الطاقة المتجددة، وهو ما سوف يزداد بشكل كبير بعد هذه القمة، وسيزداد معه التدفقات النقدية، الأمر الذي سيرفع من الاحتياطي النقدي الأجنبي في مصر.
في النهاية، يمكن القول إن توقيت انعقاد القمة الروسية الإفريقية، الذي سبقه وقف اتفاقية الحبوب، بالإضافة إلى ضرب ميناء أوديسا، وتأكيد الرئيس الروسي على استمرار تدفقات واردات القمح إلى الدول الإفريقية، وعلى رأسها مصر، يشير إلى طمأنة الدول الإفريقية بعدم تعرضهم إلى أزمة أمن غذائي حتى لو استمرت الحرب بين أطرافها.