"التلقائية والتصرف دون تكلف أو اصطناع، المعنى الحقيقي لخفة الظل".. كانت هذه العبارة منهجًا رسمه الفنان القدير أمين الهنيدي لنفسه، لإسعاد الجمهور ورسم البهجة على وجوههم وإدخال السرور على قلوبهم بعفوية أدائه التي لا يضاهيها شيء.
قبل 97 عامًا وُلد أمين الهنيدي في أكتوبر 1925، وعاش حياة مليئة بالتحديات والصعوبات ورغم قدرته على إضحاك الجمهور، لكنه فشل في إسعاد نفسه، فعاش حياته مُخلصًا للفن، الذي طغى على كثير من حياته، حتى إنه علم بوفاة والدته في أثناء انشغاله بالتمثيل من أجل توفير الأموال لعلاجها، لكن القدر لم يمهله الفرصة ليكون معها في آخر لحظات حياتها.
بدأ شغف أمين هنيدي -الذي تحل ذكرى وفاته في مثل هذا اليوم 3 يوليو 1986- بالفن منذ طفولته، من خلال المسرح المدرسي واشتراكه بفرقة التمثيل فيها، فبدأ هاويًا ثم تطور حبه للفن مع الوقت ليصبح مُمثلًا مشهورًا له بصمته الخاصة، لم يشاركه الحلم أحد، إذ لم يجد الدعم الكافي من أسرته لدفعه للفن، فقاوم الحياة بمفرده صامدًا أمام الصعوبات من أجل تحقيق حلمه، وبعد أن عمل مُدرسًا للتربية الرياضية عقب تخرجه من دبلوم معهد التربية الرياضية، لم يمنعه ذلك من احتراف الفن الذي عشقه منذ نعومة أظافره، فكرس حياته للتمثيل وقدم بصمات مضيئة في مشواره الفني، بل إن عمله في التربية الرياضية ساعده في توصيل الكوميديا بحركات جسده ليوظف ما درسه في عمله كممثل بعد ذلك.
صنع "أمين" نوعًا مُختلفًا من البهجة والسعادة يمكن أن يتسلل إلى قلبك ووجهك بعد إطلاق ضحكاته العفوية، فكان بارعًا في رسم السعادة، إذ امتلك كاريزما خاصة فكان قادرًا على جذب من حوله بخفة ظله وتلقائيته وأدائه السهل الممتنع، فوصل لقلوب الجمهور، واحتفظت ذاكرة السينما بأكثر من 40 فيلمًا قدمها خلال مشواره وعدد كبير من المسرحيات، كانت السمة المشتركة فيها خفة ظله وعفويته في تجسيد الشخصية دون تكلف.
كانت فرقة نجيب الريحاني، البوابة الأولى - بعد مسرح المدرسة- التي عبر منها أمين الهنيدي للمسرح، في نهاية الثلاثينيات، وقدم فيها مسرحية "ما كان من الأول"، ثم دفعه القدر للسفر إلى السودان وعمل بالمسرح وكون فرقة مع الفنان محمد أحمد الشهير بـ"أبو لمعة" ثم عاد لمصر ليدخل إلى قلوب الجمهور، من خلال أُذن المستمعين من خلال البرنامج الشهير "ساعة لقلبك"، الذي عمل فيه وقدم دورًا ثانويًا بشخصية "فهلاو"، ليسرد أمين ذكرياته في هذا البرنامج: "عانيت في بداياتي بهذا البرنامج لأنني كنت أقف في الصفوف الثانوية رغم اقتناع زملائي بموهبتي، لكن استقبال الجمهور لي لم يكن كبيرًا، وكنت صابرًا وأساعد زملائي في تقديم أي أدوار معهم، وعندما قدمت مسرحًا وكان اسمي قبل الأخير كنت أطلب منهم أن يضعوا اسمي في آخر القائمة لأبذل جهدًا لرفعه، وكنت أحب التمثيل ولم أفكر يومًا في أن أكون نجمًا مشهورًا فكنت أسعى للحصول على رخصة لممارسة التمثيل.
بعد أن ذاع صيته وعرفه الجمهور، حاول استثمار نجاح البرنامج، وكوّن فرقة مسرحية باسم "ساعة لقلبك المسرحية"، ثم عمل في فرقة "تحية كاريوكا" وقدم مسرحية "شفيقة القبطية"، كما عمل في فرقة الفنانين المتحدين، وقدم فيها عددًا من العروض، مثل "برغوت في العش الذهبي، غراميات عفيفي، وفردة شمال"، وغيرها الكثير، وفي السبعينيات أسس فرقة باسمه وتعاون معه المخرج السيد بدير.
تحدث أمين الهنيدي عن الظروف التي صنعت شخصيته وأوصلته للمكانة التي حققها في الفن، ليقول عنها في لقاء إذاعي مع الإعلامي وجدي الحكيم: "مررت في حياتي بظروف وتضاريس صعبة بها مسافات لينة وسهلة، وكانت الظروف الصعبة هي الغالبة، وهذه التضاريس هي التي صنعتني، وعشت حياة مثل موج البحر فيها قمة وقاع، وكل موجة تُسلم الأخرى".
كان أمين هنيدي غيورًا وشغوفًا بالفن، وكان يفضله على كل شيء وحتى على دراسته، وهو ما أكده في لقاء إذاعي سابق، أنه كان يبذل قصارى جهده في الدراسة حتى لا يكون أمام والده حجة لمنعه من ممارسة هوايته، مضيفًا "الفن كان هواية أصيلة في طفولتي وعانيت فيه، فالفشل خطر جدًا على الهاوي وربما يدفعه لتغيير طريقته، وعندما بدأت الاحتراف توقعت الفشل والنجاح أيضًا وعزمت إلا أهرب منه".
أراد أمين الهنيدي أن ينفرد وحده باستمتاع الجمهور بفنه الراقي، فكان من المفارقات العجيبة أن ثمة خلاف نشأ بين أمين الهنيدي والفنان عادل إمام، بسبب خفة ظل الزعيم وقدرته على إضحاك الجمهور، خلال مشاركته في إحدى المسرحيات، إذ ألقى عادل إمام "إيفيه" أضحك الجمهور، وهو ما أثار غضب أمين وطلب استبداله بالفنان حسن مصطفى، وتفاجأ الزعيم برفع اسمه من أفيش المسرحية، ووضع اسم فنان آخر، لكن الخلاف لم يدم طويلًا واستكمل الزعيم دوره في المسرحية.
عاش الهنيدي مُخلصًا للفن، حتى إن الساعات الأخيرة من حياته قضاها في تصوير فيلمه "القطار"، ورغم تمكن مرض السرطان من جسده، لكنه فضل أن يموت في حضن الهواية التي عشقها على أن ينتظر الموت في بيته، فلم يبالي بهذا المرض اللعين وظل متمسكًا بالفن، حتى إنه لم يدخر شيئًا منه لدرجة أن أسرته لم تستطع أن تدفع ثمن علاجه في المستشفى، فاحتجزوا جثمانه حتى تم دفع التكاليف، ليكون رصيده الحقيقي هو محبة الجمهور.