تشهد الانتخابات التركية المزدوجة "التشريعية والرئاسية"، المُقرر إجراؤها في 14 مايو 2023 تنافسًا كبيرًا بين قوى المعارضة، التي جمعتها الطاولة السداسية في تحالف الأمة، وتحالف الجمهور الذي يتزعمه حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا. وتؤكد الظروف الاقتصادية وحالة الاستقطاب الشديدة والخلافات داخل صفوف الحزب الحاكم أن حكم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يواجه منافسة شديدة من قِبل أحزاب المعارضة، لكن هذا لا يُوحي بسهولة إسقاط حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات؛ نظرًا لتمرس هذا الحزب على حكم تركيا لأكثر من 20 عامًا.
وعليه، يحاول هذا التحليل وضع أربعة سيناريوهات لملامح المشهد السياسي التركي بعد انتخابات 14 مايو 2023، تتأثر جميعها بشكلٍ رئيس بعدد من المتغيرات؛ هي: الاتجاهات التصويتية للأكراد، التحالفات، الأيديولوجيا، توجهات الأجيال الجديدة، الأوضاع الاقتصادية، ووحدة المعارضة التركية، وحدود انعكاساتها- أي السيناريوهات، على السياسات التركية سواءً الداخلية أو الخارجية.
السيناريو الأول.. تكرار انتخابات 2018:
يشير هذا السيناريو إلى إمكانية فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، دون القدرة على حسم الأغلبية التي تسمح له بتمرير أجندته التشريعية في الجمعية الوطنية "البرلمان"، وهو ما يضطره إلى اللجوء لعقد تحالفات جديدة داخل الجمعية الوطنية، على غرار ما حدث في 2018، ولكن الجديد في هذه الانتخابات أن التحليلات ترى أنها ستتجه إلى جولة الإعادة، خاصة مع وجود 4 مرشحين، وعدم قدرة أيهم الحصول على نسبة الفوز المطلوبة من الجولة الأولى؛ وهي 50%+1. ويُمثل إعادة انتخاب أردوغان بجمعية وطنية يسيطر عليها حزبه استمرارية سياساته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ويُعزز هذا السيناريو مجموعة من المؤشرات:
(&) الخبرة والسمات القيادية لزعيم تحالف الجمهور "أردوغان": تُمثل عوامل الخبرة، والشخصية الكاريزمية، والقدرة على مخاطبة الجمهور لدى الرئيس التركي أردوغان، فرصة له للفوز بمنصب رئيس الجمهورية التركية لمدة خمس سنوات مُقبلة، وذلك دون أن يتمكن الحزب الحاكم من ضمان هذه الكتلة التصويتية، وهو ما يعني حاجة أردوغان إلى التحالف مع عددٍ من الأحزاب الصغيرة؛ لضمان الأغلبية ليتمكن من تمرير أجندته التشريعية.
(&) امتصاص آثار الأزمة الاقتصادية: تشير التقارير إلى أن سياسات الحماية الاجتماعية التي اتخذتها الحكومة التركية منذ جائحة كورونا، مثل رفع الحد الأدنى للأجور، ورفع رواتب موظفي الخدمة المدنية، أثَّرت بشكلٍ إيجابي على شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الاقتصاد التركي يئن من آثار التضخم وانخفاض سعر الصرف، وهو ما يدعم احتمالات اتجاه الأتراك إلى تغيير الفكر الحكومي القديم عبر التصويت العقابي لممثلي حزب العدالة والتنمية في البرلمان.
(&) كشوفات الغاز الجديدة: يحاول أردوغان وحزب العدالة والتنمية توظيف ورقة كشوفات الغاز الجديدة لتركيا في البحر المتوسط والبحر الأسود، وهو ما برز في قرار حكومة حزب العدالة والتنمية، بإعفاء المواطنين من فواتير الغاز لمدة شهر، واعتبر منافسو أردوغان أن هذه الخطوة وسيلة للدعاية الانتخابية.
(&) معالجة أردوغان لأخطائه، والعودة إلى سياسة "صفر مشاكل": قامت شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية على سياسة "صفر مشاكل" التي بدأها أحمد داوود أوغلو، زعيم حزب المستقبل المعارض، ورئيس الوزراء الأسبق، وتراجعت هذه السياسة بشكلٍ واضح بعد 2011؛ إذ دخلت أنقرة في حالة من التنافس الذي وصل حد التصارع مع العديد من دول المنطقة. ويعمل أردوغان حاليًا على معالجة هذه الأخطاء عبر تصفير مشاكله الخارجية مرة أخرى، لا سيَّما مع بعض دول المنطقة مثل مصر، الإمارات، السعودية، إسرائيل، وسوريا، وذلك لتجاوز الأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم؛ بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك لإعادة تسويق سياسة حزبه في انتخابات 2023.
(&) نتائج استطلاعات الرأي: تشهد مؤسسات استطلاعات الرأي التركية انتقادات حادة من حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يتهمها بالتحيز لصالح كليتشدار أوغلو، مُرشح تحالف الأمة بهدف التأثير على اتجاهات الناخبين السياسية. وفي هذا الصدد، أشارت نتائج استطلاع رأي أجراه مركز "ORC" للأبحاث بأنقرة إلى تفوق مرشح تحالف الأمة على أردوغان بنسبة 49.3%. وأظهر استطلاع لشركة أبحاث الرأي العام Optimar أن أكثر من نصف سكان تركيا متأكدون من فوز الرئيس الحالي أردوغان في هذه الانتخابات، وذلك وفق ما نُشر في صحيفة "حرييت" التركية. وشمل هذا الاستطلاع مشاركة 4745 مواطنًا.
السيناريو الثاني.. جولة فاصلة مع فوز تحالف الأمة:
يُشير هذا السيناريو إلى تمكن تحالف الأمة بقيادة حزب الشعب الجمهوري من الوصول إلى جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، وبالتالي حسمها لصالحه، وكذلك الحال في الانتخابات البرلمانية. وسيترتب على ذلك تغير جذري في السياسة التركية، سواءً على المستوى الداخلي أو الخارجي، ومن أبرز التغييرات التي ستطرأ على السياسة التركية:
(&) النظام السياسي: في حال فوز "كليتشدار" بالرئاسة سيكون قادرًا على التخلي عن بعض السلطات التي جمعها أردوغان في يديه، وكذا التعزيز من أدوار المؤسسات التي أضعفها. وسيتبنى تحالف الطاولة السداسية "الأمة" تغيير الدستور التركي الذي عدَّله أردوغان في 2017، والعودة بالبلاد إلى النظام البرلماني، وهو ما سيُعد ضربة قاصمة لتحالف الجمهور الذي يقوده حزب العدالة والتنمية. ورغم ذلك، هناك عوائق كبيرة سوف تواجه تحالف الأمة؛ بسبب البيروقراطية التي يهيمن عليها بشدة حزب العدالة والتنمية والولاء الشديد له داخل الأوساط والدوائر الحكومية.
(&) السياسات الاقتصادية: من المُتوقع أن يلجأ تحالف الأمة إلى إلغاء تبعية البنك المركزي للإشراف المباشر لرئيس الجمهورية. ورغم ذلك، يفتقر تحالف الأمة لبرنامج اقتصادي قوي في هذه الانتخابات، وهو ما يجعل الكثير من الأتراك يترددون في التصويت له؛ إذ يهتم أغلب الأتراك بالشأن الاقتصادي، ويتخوفون من التغييرات الجذرية؛ خوفًا من تردي الأوضاع الاقتصادية.
(&) العلاقات الخارجية: من المُرجح أن يستأنف تحالف الأمة بعد فوزه مباشرة مناقشاته مع الاتحاد الأوروبي، بخصوص الانضمام إلى منطقة اليورو، وهو الأمر الذي يتطلب فتح حوار مباشر مع اليونان، بما في ذلك القضية القبرصية. وترى التحليلات أن الحوار سيخفض من مخاطر التصعيد في بحر "إيجه" والمناوشات البحرية في شرق المتوسط، وكذلك العلاقات مع موسكو بما يضمن تقليل اعتماد تركيا على الغاز الروسي والاتجاه إلى عقد الصفقات مع الغرب بقيادة واشنطن.
رغم أن بعض التحليلات ترى أن التغييرات الجذرية وشعبية أحزاب الطاولة السُداسية قد تشجع هذا السيناريو، إلا أننا لا يُمكن أن ننكر بأي حال من الأحوال أنه صعب الحدوث؛ بسبب عوامل في شخصية كمال كليتشدار، وتخوف الأتراك من حدوث أي تغييرات راديكالية قد تضر بأوضاعهم الاقتصادية في الوقت الحالي.
السيناريو الثالث.. فوز كليتشدار أوغلو مع تحالف الجمهور:
يشير هذا السيناريو إلى اتجاه الانتخابات الرئاسية إلى جولة إعادة تفضي إلى فوز زعيم المعارضة، كمال كليتشدار أوغلو، مع تمكن تحالف الجمهور بزعامة حزب العدالة والتنمية من حسم الأغلبية البرلمانية لصالحه؛ إذ سيفضل الأتراك عدم انفراد أيٍ من المعارضة أو السُلطة بالرئاسة وأغلبية الجمعية الوطنية. وسينعكس هذا السيناريو على عددٍ من السياسات:
(&) السياسات المحلية: ستبرز حالة عدم اليقين وغياب الاستقرار على المشهد السياسي التركي، وهو أمر غير مُعتاد، خاصة أن حزب العدالة والتنمية انفرد بالسُلطة دون منافسة كبيرة لأكثر من 20 عامًا. وفي حال حدوث هذا السيناريو، سنشهد محاولة كل طرف عرقلة أجندة الطرف الآخر.
(&) السياسات الاقتصادية: في حال حدوث اضطرابات سياسية؛ بسبب المنافسة الشديدة والعوائق الممتدة بين كلا الطرفين بما يملكانه من سُلطات وصلاحيات، فمن المتوقع بشدة تأثر السياسات الاقتصادية بذلك، خاصة أنه سيتم إهمال الاقتصاد لانشغال التحالفات الحاكمة بحالة التنافس السياسي.
(&) العلاقات الخارجية: ستنعكس حالة التنافس السياسي بين التحالفين على قرارات السياسة الخارجية التي تتطلب سرعة في اتخاذ القرارات، وحسمًا ويقينًا كبيرين. ورغم ذلك، لن تشهد السياسات الخارجية تغيرًا جذريًا، وهو ما سيفتح الباب لبذل موسكو جهودًا مضاعفة للتواصل مع الرئيس التركي الجديد، بما يسمح باستمرار ما هو قائم من اتفاقات وحالة تنسيق بين الجانبين في عددٍ من الملفات، ويدعم ذلك استمرار اعتماد تركيا على مصادر الطاقة الروسية.
ويُعتبر هذا السيناريو مُستبعدًا إلى حدٍ بعيد، خاصة أنه من المحتمل أن يؤدي إلى صراع على السُلطات بين رئاسة الجمهورية والبرلمان؛ إذ من المُمكن أن يتبنى حزب العدالة والتنمية داخل الجمعية الوطنية تشريعات محافظة؛ لإحراج حزب الشعب الجمهوري، وهو ما سينعكس على حالة الاستقرار التي تنعكس بدورها على الأوضاع الاقتصادية.
السيناريو الرابع.. فوز أردوغان بالرئاسة، والمعارضة بالبرلمان:
يتجه هذا السيناريو بالمشهد السياسي التركي إلى حالة انقسام؛ إذ سيسيطر تحالف الجمهور على رئاسة الجمهورية، بعد حسم أردوغان لها في جولة الإعادة، فيما سينجح تحالف المعارضة بتشكيل أغلبية داخل الجمعية الوطنية لا سيَّما إذا نجح حزب الشعوب الديمقراطية في تجاوز "العتبة الانتخابية" المحددة بـ7%، وهو الأمر الذي يجعله يحصل على 80 مقعدًا داخل الجمعية الوطنية. وفي هذه الحالة ستستمر حالة عدم اليقين في السياسة التركية، وتعمد كل طرف لعرقلة أجندة الطرف الآخر. وستعصف نتائج هذا السيناريو بالاستقرار السياسي، وهو ما قد يدفع بأردوغان إلى إمكانية اتخاذ قرار بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مُبكرة، وفي الوقت نفسه، ووفق التعديلات الدستورية 2017، يُمكن لثلثي أعضاء الجمعية الوطنية الدعوة إلى انتخابات مُبكرة بموافقة 360 صوتًا، وكذلك يُمكنهم توبيخ الرئيس وإحالته للمحكمة الدستورية بعد موافقة ثلثي الأعضاء.
في النهاية؛تشير سيناريوهات الانتخابات التركية المُقبلة إلى احتمال استمرار صعوبة تقاسم السُلطة أو التعايش بين السُلطة والمعارضة، لا سيَّما أن كل طرف يرغب في السيطرة منفردًا على الحكم، وهو الأمر الذي سيجعل من احتمالات سيطرة طرف واحد على أيٍ من السُلطتين، سواءً التنفيذية أو التشريعية صعبًا؛ لما له من آثار سلبية على الاستقرار السياسي والأوضاع الاقتصادية. ومن المُرجح أن يلعب الأكراد، والأيديولوجيا الدور الأكبر في تشكيل المشهد السياسي التركي بعد هذه الانتخابات. وفي حال عدم فوز تحالف الأمة بأغلبية الجمعية الوطنية، فمن المُرجح بشدة تمكنه من الحصول على مزيد من المقاعد الإضافية، مُقارنة بانتخابات 2018، وهو ما يعني ارتفاع صوت المعارضة داخل البرلمان وقدرتها على تعطيل القرارات الحكومية.