"كلما عُدت بالزمن إلى الوراء أرى طفلًا صغيرًا أثقلت كاهله مشاعر اليُتم وأحزانه"، كلمات حاول الفنان المصري الراحل نور الشريف، من خلالها تلخيص سنوات عمره الأولى، ومعاناته في الصغر التي صنعت شخصيته الفنية المميزة؛ ليتغلب على الظروف العصيبة التي واجهته، ليصبح الفتى الذي طالما حلم أن يكون باحثًا في التراث الشعبي، أحد أبرز نجوم التمثيل في الوطن العربي ويُشكل بصمة وعلامة بارزة في ذاكرة كل مواطن عربي.
ولد محمد جابر محمد عبد الله- غيّره رسميًا بعد زواجه إلى نور الشريف- في قلب منطقة السيدة زينب الشهيرة بالقاهرة، في مثل هذا اليوم 28 أبريل عام 1946، وساهمت نشأته في بيئة شعبية في أن يحفظ جيدًا ملامح طبقات حالمة في المجتمع، ليعرف ما يريدونه وتطلعاتهم وهمومهم، ويُعبر بصدق عن قضاياهم في كثير من الأعمال، منها مسلسله الشهير "لن أعيش في جلباب أبي" الذي يُعد علامة في تاريخ الدراما المصرية، وأيضًا فيلم "فتوات بولاق"، وجزءان من ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة "السكرية" و" قصر الشوق"، وغيرها من الأعمال التي عبرت بصدق عن الناس في الأحياء البسيطة.
نور الشريف الذي قدّم العديد من الشخوص والأعمال الفنية، عاش في الواقع حياة مليئة بالتفاصيل الدرامية، إذ عانى ويلات اليُتم منذ كان عمره 9 أشهر، بعد وفاة والده وسفر والدته مع زوجها الجديد للخارج، وفتح عينيه على الدنيا يتيمًا، وعاش في كنف أسرة والده، ليتولى عمه وعمته تربيته ورعايته.
اسمه الحقيقي
اكتشف نور الشريف أنه يتيم مع أولى خطواته في الدراسة بالمرحلة الابتدائية، إذ يسرد ذكريات هذه الفترة في حوار قديم: "الجميع يناديني نور إسماعيل وكنت أعتقد أنه اسمي الحقيقي، ومع أول يوم دراسة في الصف الأول الابتدائي، وجدت المدرس ينادي اسم (محمد جابر محمد) فلم أرد عليه، ثم أخبرني أنه اسمي وبعد أن عدت للبيت سألت عمتي عن هذا الأمر، فأخبرتني أن والدي توفى عندما كان عمري 9 أشهر، وأن عمي إسماعيل ليس والدي، فتملكني شعور بالاستحياء وأنه ليس من حقي أن أطلب منهم شيئًا".
لم يكن يعلم نور الشريف أن القدر يحمل له من الشهرة ومحبة الجمهور ما يعوضه عن سنوات من التعاسة عاشها بمفرده في فترة طفولته، إذ كان شغفه وحبه للقراءة والاطلاع وثقافته الواسعة، من أبرز العوامل التي ساعدته على تأكيد موهبته الفنية، بل وساعدته في اختياراته لأعماله التي حُفرت في تاريخ السينما والدراما المصرية.
انضم نور الشريف إلى فريق التمثيل في المدرسة، لكنه تعامل معه على أنه مجرد هواية فقط، مثل كرة القدم إذ كان لاعبًا في فريق أشبال نادي الزمالك، ولكن القدر أرسل له الفنان القدير سعد أردش الذي رشحه للعمل معه في دور صغير بمسرحية "الشوارع الخلفية"، ثم اختاره المخرج كمال عيد ليمثل في مسرحية "روميو وجوليت" وخلال التجارب التحضيرية، تعرف على الفنان عادل إمام الذي قدمه للمخرج حسن إمام، ليظهر بأول دور في السينما من خلال فيلم "قصر الشوق" عام 1968 لينال إشادة نقدية وقتها ويلفت الأنظار إليه بشدة.
أفلام نور الشريف
نظرة سريعة إلى رصيد نجم "سواق الأتوبيس" السينمائي، توضح أنه أحد أبرز النجوم الذين يُشكّل إنجازهم الإبداعي علامة فارقة في تاريخ السينما العربية، إذ تضم قائمته الفيلمية عناوين شرائط منها "السراب"، "زوجتي والكلب"، "دائرة الانتقام"، "قصر الشوق"، "السكرية"، "الكرنك"، "مع سبق الإصرار"، "ضربة شمس"، "غريب في بيتي"، "العار"، "سواق الأتوبيس"، "زمن حاتم زهران"، "الصعاليك"، "جري الوحوش"، "كتيبة الإعدام"، "الكلام في الممنوع"، "ناجي العلي"، "ليلة ساخنة"؛ ليصل رصيده الفني لأكثر من 160 عملًا، واختيرت 7 أفلام له ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصري.
المخرج نور الشريف
جلس خريج المعهد العالي للفنون المسرحية على مقعد الإخراج مرة واحدة في السينما، من خلال فيلم "العاشقان" الصادر عام 2002 وتولى بطولته أيضًا بالمشاركة مع زوجته بوسي، وشكّل الاثنان ثنائيًا فنيًا في العديد من الأفلام، منها "حبيبي دائمًا"، "الحكم آخر الجلسة"، "آخر الرجال المحترمين"، "كروانة".
رد الجميل
كان نور الشريف مدينًا للشاشة الصغيرة؛ لأن جزءًا كبيرًا من انطلاقته الفنية، جاء من خلال مسلسل "القاهرة والناس"، لذا كان حريصًا – رغم ولعه بالسينما- على أن يحافظ على علاقته بجمهور الدراما التليفزيونية، ليحل ضيفًا على جمهوره كل عاميين بمسلسل جديد، ولكنه أكد في لقاء تليفزيوني سابق، أنه اضطر في آخر سنوات عمره إلى تقديم مسلسل كل عام في موسم رمضان، لاعتبارات مادية، حتى يستطيع أن يجد أموالًا يصرف من خلالها على أفلامه التي ينتجها.
حقق نور الشريف نجاحًا طاغيًا من خلال مسلسلات مثل "العطار والسبع بنات" و"الحاج متولي" و"لن أعيش في جلباب أبي" و" الرجل الآخر"، و" الدالي" ومسلسليه الصعيديين "الرحايا" و"خلف الله".
دعم الشباب
ومن اللافت للنظر حرص نور الشريف على دعم الشباب في أعماله الفنية؛ ليقدم عددًا كبيرًا منهم في مسلسل "حضرة المتهم أبي"، مُراهنًا على تحقيقهم النجومية فيما بعد، ومنهم زينة وإيمان العاصي، وشريف سلامة.
على الجانب الإنساني، أهدى نور الشريف نجاحه لنماذج نسائية في حياته، وهن عمته وشقيقته عواطف على رأس اللاتي يدين لهن بالفضل، ثم زوجته بوسي ووالدتها، كما أنه بعد عثوره على أول صورة لوالده الذي لم يره في الحقيقة، وكان يظهر فيها بشارب، حرص على أن يضع هذه التفصيلة الشكلية بشخصية "المدرس فرجاني" بفيلمه الشهير "آخر الرجال المحترمين"، ليحظى النجم الذي ولد يتيمًا بحب واحترام الملايين في مصر والوطن العربي.