في الثامن والعشرين من نوفمبر الماضي، أنهت حركة طالبان باكستان، المعروفة باسم "تحريك إي طالبان باكستان" (TTP)، اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعته في مايو الماضي مع الحكومة الباكستانية بدعم من حركة طالبان الأفغانية، ما دفع الجماعة الباكستانية التي تتخذ من المناطق القبلية المتاخمة لحدود أفغانستان موطئ قدم لها، للتصعيد وشن هجمات على قوات الأمن الباكستانية.
بعد إعلان انتهاء الهدنة من جانب واحد، اتجهت "طالبان باكستان" إلى السير على النهج المتبع لدى التنظيمات الإرهابية؛ وذلك بإعلان اتجاهها لأسلوب التصعيد والتركيز تحديدًا على استهداف عناصر قوات الأمن الباكستاني لإضعاف الأجهزة الأمنية لحكومة إسلام آباد من ناحية، وإجبار الأخيرة على العودة إلى المفاوضات مع الحركة الإرهابية بعد الموافقة على جميع شروطها من ناحية أخرى.
تصعيد ملحوظ
في هذا الإطار لم يمضِ إلا يومين على انتهاء الهدنة التي تم تمديدها مطلع يونيو الماضي، إلا شنت "تحريك طالبان" في 30 نوفمبر الماضي، هجومًا انتحاريًا استهدف حافلة كانت تقل عناصر من الشرطة الباكستانية في مدينة كويتا جنوبي غربي البلد، وهو ما نجم عنه مقتل 4 أشخاص وإصابة 24 آخرين، وتبنت الحركة، في بيان، هذا الهجوم الذي أعلنت أنه جاء انتقامًا لمقتل "عُمر خالد الخراساني" أحد قادة الحركة البارزين في المناطق القبلية والذي قُتل مطلع أغسطس الماضي نتيجة انفجار سيارة مفخخة في ولاية باكتيكا الأفغانية، وجاء الهجوم الثاني الذي تبنته الحركة أيضًا في 3 ديسمبر الجاري، إذ أطلق مسلحو "تحريك طالبان" المتشددون، وابلًا من الرصاص على دورية للشرطة في منطقة ناوشيرا بإقليم خيبر بختونخوا شمال باكستان، نجم عنه مقتل ثلاثة من ضباط الشرطة الباكستانية.
دوافع التصعيد الإرهابي:
وعليه، فإن هناك جملة من الأسباب التي دفعت "طالبان باكستان" إلى تصعيد هجماتها ضد قوات الأمن الباكستانية بالمناطق القبلية وداخل البلاد في هذا التوقيت تحديدًا، يأتي أبرزها ما يلي:
(*) إنهاء قرار وقف إطلاق النار من جانب واحد: في منتصف مايو 2022 عقدت حكومة إسلام آباد وحركة طالبان باكستان، مفاوضات في كابل، نجم عنها اتفاق الطرفين بوساطة حركة طالبان المسيطرة على الحكم في أفغانستان على وقف إطلاق النار حتى نهاية مايو الماضي، وبعد الانتهاء اتفق الطرفان مطلع يونيو الماضي على تمديد الاتفاق، بعد إرسال حكومة إسلام آباد وفدًا يتكون من 50 عضوًا إلى كابل، وبموجب هذا الاتفاق وافق الوفد الباكستاني على السماح لمئات من مقاتلي حركة طالبان باكستان بالعودة إلى مناطقهم الأصلية كإجراء لبناء الثقة، وهذا وفقًا لعدد من المراقبين يُعدُّ خطأ وقع فيه الجانب الباكستاني، تمثل في عدم تقدير نوايا مقاتلي "تحريك طالبان باكستان"، الذين استأنفوا الهجمات الإرهابية وعمليات القتل الانتقامية وعمليات الخطف من أجل الفدية والابتزاز في نوفمبر الماضي، بدلًا من الاتفاق مجددًا على تمديد الهدنة وإحلال السلام في البلاد على التصعيد، زاعمةً أن ذلك انتقامًا لما وصفته "استمرار قوات باكستان بهجماتها ضد عناصر الحركة".
وحتي يتسنى للحركة تحقيق رغبتها في إعادة تأسيس وجود مسلح لها في إقليم خيبر باختونخوا شمال غرب باكستان، توجهت الحركة لإعلان وقف الهدنة واللجوء إلى التصعيد، مستغلين إجراءات بناء الثقة التي منحتها لهم حكومة إسلام آباد، وما يؤكد عدم جدية الحركة الإرهابية في الاستمرار في قرار وقف إطلاق النار، إرسالها خلال فترة الهدنة بين 800 و1200 مقاتل للحركة من أفغانستان إلى باكستان عبر المناطق القبلية، فوفقًا لمنظمة الأمم المتحدة، فإن هناك نحو 5000 من مقاتلي وكبار قادة "تحريك طالبان" وعائلاتهم يختبئون في أفغانستان تحت حماية نظام طالبان.
(*) حدوث تغييرات في رأس القيادة العسكرية الباكستانية: بعد يوم واحد من تسلم الجنرال "عاصم منير" في 29 نوفمبر الماضي قيادة الجيش الباكستاني خلفًا لـ"قمر جاويد باجوا"، لجأت الحركة إلى التصعيد مباشرة، بسبب تخوفها من أن يستهدفها "منير" المعروف بمواقفه المتشددة ورفضه وجود العناصر الإرهابية، بدلًا من التفاوض معها.
وتعي الحركة الإرهابية أيضًا أن مصلحتها في الوقت الحالي، تتمثل في استباق الهجمات لشل قدرة الجيش تحت القيادة الجديدة، خاصة بعد دخول الجيش الباكستاني مؤخرًا في "مواجهة سياسية" مع أنصار رئيس الوزراء الباكستاني السابق "عمران خان" الذي لا زال يرى أن الجيش السبب الرئيس في إطاحته من حكم البلاد العام الماضي، وعليه فهو يدفع بأنصاره للنزول إلى الشوارع للتظاهر والضغط على الحكومة الباكستانية برئاسة "شهباز شريف" والجيش لعقد انتخابات مبكرة. وعليه فإن "طالبان باكستان" منذ العام الماضي لديها رؤية بأن انتصارها على الجيش الباكستاني، ربما يمكنها من الوصول للحكم مثلما فعلت نظيرتها "طالبان الأفغانية" التي سيطرت على أفغانستان في أغسطس 2021 بعد نجاح حربها ضد الجيش الأمريكي.
(*) تحركات أمنية باكستانية لتطهير الأقاليم من البؤر الإرهابية: مثَّل استمرار شن الجيش والشرطة الباكستانيين، هجمات تهدف إلى تطهير أقاليم البلاد من التنظيمات الإرهابية، قلقًا لـ"تحريك طالبان"، خاصة بعد نجاح العمليات التي شنتها قوات الأمن الباكستانية في 26 نوفمبر الماضي، في إقليم البنجاب الشرقي التي قدرت بـ(461) عملية خلال أسبوع واحد، نجم عنهم مقتل (47) إرهابيًا وإصابة العشرات منهم، بجانب حملة مداهمات واسعة في البلوشستان وخيبر بختونخوا بحثًا عن الإرهابيين، وتمكنت القوات الباكستانية من العثور على كمية كبيرة من الأسلحة كان متوقع أن يستخدمها الإرهابيون لشن هجمات داخل البلاد، ورغم أن القوات الباكستانية لم تعلن صراحة اسم الجماعة التي استهدفتها، فإنه من المرجح بشكل كبير أنها "تحريك طالبان" لأن الأخيرة أعلنت مباشرة بعد ثلاثة أيام من هذه الهجمات وقف الهدنة واللجوء للتصعيد، مشيرة إلى أن السبب هو هجمات قوات باكستان وانتهاكها قرار وقف إطلاق النار.
وما يدل على استمرار أجهزة الأمن الباكستانية في تشديد القبضة الأمنية على البلاد وتضييق الخناق على أي تنظيمات إرهابية، تنفيذها، في أواخر يونيو الماضي، حملة مداهمات في مناطق مختلفة من إقليم البنجاب نجم عنها اعتقال "خلية إرهابية" مكونة من أحد عشر عنصرًا وصادرت الأسلحة التي كانت بحوزتهم؛ ما يفسر سبب دعوة رئيس الوزراء الباكستاني السابق "عمران خان" في 26 نوفمبر الماضي إلى ضرورة حل حكومتي خيبر بختونخوا والبنجاب، ما ينجم عنه أيضًا وجود حالة من الفراغ الأمني في الإقليمين الحدوديين تستغله الجماعة الإرهابية.
(*) تضييق الخناق الأمريكي على "تحريك طالبان باكستان": جاء الهجوم الثاني الذي شنَّته الحركة الإرهابية على دورية للشرطة في منطقة ناوشيرا بإقليم خيبر بختونخوا شمال باكستان بعد يوم من إعلان وزارة الخارجية الأمريكية في 2 ديسمبر الجاري، إدراجها كبار قادة حركة طالبان باكستان على قوائم الإرهاب العالمية، وجاء من بينهم نائب رئيس الحركة "قاري أمجد"، المشرف على العمليات والمسلحين في إقليم خيبر بختونخوا، شمال غرب باكستان، والمتاخم لأفغانستان، وأفاد الوزير "أنتوني بلينكن" في بيانه، بأن واشنطن تكثف جميع أدواتها لمنع هؤلاء الإرهابيين من استخدام الأراضي الأفغانية منصةً لتهديد المجتمع الدولي، ما دفع الحركة للرد على القرار الأمريكي بالزعم أنها لا تحتاج إلى استخدام الأراضي الأفغانية، ولا تُشكّل تهديدًا للمجتمع الدولي، وأن أنشطتها تقتصر على الأراضي الباكستانية.
سيناريوهات محتملة:
وفي ظل الدوافع السابق ذكرها، تجدر الإشارة إلى أن تصعيد حركة "طالبان باكستان" ربما يأخذ أحد السيناريوهات التالية، وذلك على النحو التالي:
(&) اتجاه الطرفين إلى أسلوب التصعيد: من ضمن السيناريوهات المطروحة في إطار ما تقدم، هو أن يتجه الطرفان (الدولة الباكستانية و"تحريك طالبان") للدخول في جولة جديدة من الصراع، وهو ما تعكسه التصريحات الصادرة عن الطرفين، خاصة من جانب الحركة التي أعلنت مباشرة مسؤوليتها عن الهجمات التي شنتها في نوفمبر وديسمبر 2022، بدلًا من أن تلتزم الصمت. ولكن وفقًا لعدد من المراقبين، فإن هذا السيناريو غير مرجح حدوثه بنسبة كبيرة حتى لو لجأ إليه الطرفان، فإنه لن يستمر طويلًا، لظروف كل طرف، بالنسبة لحكومة إسلام آباد فإنها تعاني في الوقت الراهن اضطرابات في أوضاعها السياسية والاقتصادية، فضلًا عن أنها لن تستطيع إطلاق عملية عسكرية شاملة ضد أذرع الإرهاب في منطقة بعينها، لأن عناصر "تحريك طالبان" في الوقت الحالي منتشرون بأماكن متفرقة، وليسوا في إقليم أو منطقة معينة خاضعة بالكامل وبشكل مباشر لسيطرتهم، وعليه سيستمر الجيش من خلال الأجهزة الاستخباراتية في شن هجمات على الجزء الشمالي الغربي من باكستان.
أما بالنسبة لحركة "طالبان باكستان" فإنها بالرغم من إعلانها التصعيد وشن مزيد من الهجمات، فإنها وفقًا للمراقبين لن تستطيع الصمود طويلًا، خاصة بعد أن أنهكتها الهجمات الأخيرة التي شنتها قوات الأمن الباكستانية، وهو ما جعلها عاجزة عن تحمل العمليات المتواصلة التي تباشرها قوات إسلام آباد.
(&) العودة إلى طاولة المفاوضات واستئناف الهدنة: من ضمن السيناريوهات المطروحة أن يعود الطرفان مجددًا إلى طاولة المفاوضات برعاية حركة طالبان الأفغانية للوصول إلى قرارات لتهدئة الأوضاع، وهذا السيناريو مرجح حدوثه، ولكنه لن يفضي إلى النتيجة المرجوة نظرًا للتاريخ الذي تملكه "تحريك طالبان" سواء في الالتفاف على أي اتفاقيات سلام موقعة مع النظام الحاكم وتنتهكها في نهاية الأمر، أو في استغلالها الهدنة لتوسيع رقعة نفوذهم وتمديد انتشارها في البلاد، وهو ما حدث في الهدنة الحالية، ووقع أيضًا خلال نوفمبر من العام الماضي في عهد رئيس الوزراء الباكستاني السابق "عمران خان"، إذ استمرت الهدنة وقتها لمدة شهر واحد فقط وعادت الأوضاع كما كانت، وعليه فإن الوصول لاتفاق سلام أكثر ديمومة في باكستان يمكن أن يحدث، ولكن بشرط التزام الطرفين بما تنص عليه بنود الاتفاق.
(&) شن عمليات مسلحة محدودة: هذا السيناريو لطالما اتبعته التنظيمات الإرهابية، وهو يعني اتجاه "تحريك طالبان" إلى شن هجمات محدودة بين الحين والآخر، لتحقيق أهداف عدة، منها إرهاق الجيش الباكستاني من ناحية، وإثبات أنها لا زالت موجودة وفاعلة على الأراضي، ويمكن أن تكبد القوات الباكستانية خسائر فادحة من ناحية أخرى، أملًا في تحقيق نتيجة مفاداها الضغط على حكومة "إسلام آباد" للعودة إلى طاولة المفاوضات والاستجابة لأي شروط تطلبها الحركة الإرهابية.
(&) اتجاه حكومة باكستان لإعادة تقييم علاقتها مع طالبان أفغانستان: من ضمن السيناريوهات المطروحة، هو أن تتجه الحكومة الباكستانية برئاسة "شهباز شريف" إلى إعادة تقييم علاقاتها مع حركة طالبان التي تسيطر على الأراضي الأفغانية، لأن الأخيرة سمحت في السابق لـ"تحريك طالبان" بالوجود في أفغانستان كملاذ بديل، ما مكَّنها من شن هجمات داخل الأراضي الباكستانية، وعليه لا بد أن يكن هناك تعاون من نوع آخر بين حكومة إسلام آباد وطالبان الأفغانية، يتمثل في تسليم الأخيرة جميع إرهابيي حركة "تحريك طالبان" إلى باكستان من أجل التقليل من النشاط الإرهابي داخل البلاد.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الأوضاع في باكستان متجهة نحو التصعيد لأن تحريك إي طالبان باكستان "TTP"، هدفها الأساسي، هو الإطاحة بحكومة إسلام آباد وإقامة نظام حكم متشدد وأذرع قضائية في شمال غرب باكستان، ما يضع على القوات الأمنية وأجهزة المخابرات الباكستانية تحت قيادة الجنرال "عاصم منير"، عبء إعادة تشكيل قواتها ووضع خطة حاسمة تشل قدرات الحركة الإرهابية التي أعادت تشكيل نفسها خلال العامين الماضين لمحاكاة حركة طالبان الأفغانية.