في الـ27 من يناير 2022 أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، عن تحالف ثلاثي يضم إلى جانبها كلًا من هولندا واليابان. ويقوم اتفاق التحالف على تقييد تصدير بعض آلات إنتاج الرقائق الإلكترونية المتقدمة إلى الصين، ويهدف الاتفاق إلى تقويض القدرات التكنولوجية الصينية المتقدمة، والتأثير على توظيفها في مجالات الذكاء الاصطناعي والتطور التكنولوجي الداعم لقدرات الصين الشاملة. وتماشيًا مع تلك التوجهات سبق أن وقع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في 9 أغسطس 2022 قانون رقائق من أجل أمريكا. وذلك بتخصيص 52.7 مليار دولار أمريكي، لتمويل صانعي الرقائق من الشركات الأمريكية، وتقديم إعفاءات ضريبية وحوافز لمصانع إنتاج الرقائق تقدر بـ 24 مليار دولار، كما أعلنت وزارة التجارة الأمريكية في أكتوبر 2022 عن قواعد تم بموجبها منع الشركات الأمريكية من بيع الرقائق المستخدمة في تطوير الحوسبة الفائقة والذكاء الاصطناعي للشركات الصينية، ومنع المواطنين الأمريكيين وحاملي بطاقة الإقامة الخضراء من العمل في شركات تعمل في هذا المجال في الصين.
تأسيسًا على ما سبق وإضافة له، يُمكن القول إنه لم يكن من قبيل المصادفة أن تعلن جريدة "الفاينشيال تايمز" عن فوز أفضل كتاب صادر لعام 2022 والمعنون بـ "حرب الرقائق: القتال من أجل التكنولوجيا الأكثر أهمية في العالم" Chip War: The Fight for the World›s Most Critical Technology لمؤلفه كريس ميلر الأستاذ بكلية فليتشر للدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية، والذي يتناول تطور صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، منذ بدايتها، وصولًا إلى المرحلة الحالية التي تشهد حربًا في صناعة الرقائق بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وعليه، يبدو أن هذا الكتاب يُشكل إطارًا نظريًا للصراع بين الدولتين في مجال صناعة الرقائق، التي تُعتبر محددًا جديدًا، ضمن محددات حسم الصراع بين الطرفين.
دوافع مُتعددة:
تتنوع دوافع واشنطن من عقد الاتفاق مع هولندا واليابان، والتي يمكن إجمالها في العناصر التالية:
(*) استكمال سلسلة التحالفات الأمريكية: يعد الاتفاق بمثابة تحالف تكنولوجي ثلاثي يهدف إلى محاصرة الصين في مجال التكنولوجيا المتقدمة، ومنها الرقائق وأشباه الموصلات التي يتم استخدامها، لتشغيل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، والأسلحة والمعدات المتطورة. ويضاف هذا التحالف إلى سلسلة التحالفات التي بدأت الولايات المتحدة في تدشينها مع حلفائها، والتي تستهدف بالأساس الحد من الصعود الصيني، كان أبرز تلك التحالفات هو تحالف "أوكوس"، الذي ضم كلًا من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا في سبتمبر 2021، وتفعيل تحالف "كواد" الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا والهند واليابان، فضلًا عن تبنى استراتيجية إزاء منطقة الإندوباسيفيك، بدلًا من استراتيجية آسيا الهادي التي تتبناها الصين. وهي التحالفات التي تسعى بالأساس لمحاصرة الصعود الصيني وتعزيز نفوذ واشنطن وهيمنتها على تفاعلات السياسة الدولية ودعم حلفائها.
(*) الحد من القدرات التكنولوجية المتقدمة للصين: يستهدف الاتفاق منع تصدير الآلات المنتجة للرقائق وأشباه الموصلات من اليابان وهولندا، وبموجب الاتفاقية، ستضع هولندا قيودًا على شركتها العملاقةASML" " وستفرض اليابان قيودًا مماثلة على شركتي " Nikon Corp "، Tokyo Electron Limited"، لمنع بيع المعدات التي تصنع الرقائق المتقدمة إلى الصين. في المقابل أعلن قطاع صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع 2021 عن استثمارات جديدة تقارب 80 مليار دولار في الداخل الأمريكي حتى 2025. ووفقًا لبيان صادر عن اتحاد هذا القطاع، فإن تلك الاستثمارات ستؤمن عشرات الآلاف من الوظائف، وستدعم الريادة التكنولوجية الأمريكية، وتشجع أمان وصمود سلاسل الإمداد العالمية بأشباه الموصلات.
(*) فرض عقوبات على الصين: يستهدف الاتفاق إبطاء التطور العسكري الصيني عن طريق قطع الوصول إلى التقنيات المتقدمة من الرقائق وأشباه الموصلات، وذلك من خلال تنويع العقوبات على الصين، بحيث يكون هناك حظر على إمداد الشركات الصينية برقائق معينة إذا كانت تحمل التكنولوجيا الأمريكية، لمنع الصين من أن تكون قادرة على استخدامها في تطوير صناعة التكنولوجية الخاصة بها، أو في المجالات الاستراتيجية، مثل أجهزة الكمبيوتر العملاقة أو أسلحة الجيل التالي، بالإضافة إلى إبطاء محاولات الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي من تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة، لاسيما أن الصين توظف الرقائق التي تستوردها من الخارج، من خلال إعادة تصديرها مرة أخرى بعد تصنيعها في الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر أو السيارات، أو الأجهزة الطبية، أو الأجهزة الكهربائية المنزلية، أو حتى المعدات العسكرية الذكية التي تستخدم الرقائق مثل المسيرات، والتي أثبتت كفاءتها بشكل عام أخيرًا في الحرب الروسية الأوكرانية، لدرجة دفعت العديد من المحللين لاعتبار أن تلك الحرب في أحد جوانبها تُعد حربًا بين المسيرات التي سيكون لها القدرة على حسم الصراع لصالح من يملك المسيرات الأكثر كفاءة وتقنيةً.
(*) دعم قدرات الحلفاء التكنولوجية: على خلفية زيارة رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، إلى الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 2023 ولقائه بالرئيس الأمريكي، جو بايدن، اتفق الجانبان على تعزيز تعاونهما في مجال أشباه الموصلات والطاقة النووية. ووفقًا لبيان مشترك صدر بعد الاجتماع، أكدت الولايات المتحدة الأمريكية واليابان على ريادتهما الاقتصادية، والعمل على زيادة التفوق المشترك فيما يتعلق بالأمن الاقتصادي، بما في ذلك حماية وتعزيز التعاون في الطاقة النووية مع التمسك بأعلى معايير عدم الانتشار، كما أعلن وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني، ياسوتوشي نيشيمورا، بعد لقائه بوزير التجارة الأمريكية، جينا ريموندو، لمناقشة التعاون في مجال إنتاج أشباه الموصلات على الأراضي اليابانية، أن حكومة بلاده قررت استثمار 70 مليار ين (547 مليون دولار) في شركة رابيدوس لأشباه الموصلات. تجدر الإشارة إلى أنه في ديسمبر 2022 أعلنت شركتا رابيدوس اليابانية، وشركة اي بي أم الأمريكية مُتعددة الجنسيات، عن تعاون مشترك كجزء من مبادرات اليابان لتوسيع أبحاث وتطوير وتصنيع أشباه الموصلات.
تحديات متنوعة:
هناك العديد من التحديات التي تواجه حرب الرقائق بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين والتي يمكن إبرازها في التالي:
(#) السوق الصينية: تُعد الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتمتلك سوقًا استهلاكية ضخمة لتصدير الرقائق الأمريكية إليها، لاسيما أن أكثر من ٦٠٪ من عائدات شركات الرقائق الأمريكية، تأتي من تصدير منتجاتها إلى السوق الصينية، بالإضافة إلى تأثير الحظر الأمريكي على الرقائق يؤدي إلى ارتفاع أسعار العديد من السلع الاستهلاكية الصينية التي يتم تصديرها للأسواق الأمريكية.
(#) العلاقات الاقتصادية بين الصين وحلفاء واشنطن: يمثل اتجاه حلفاء واشنطن مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وهولندا، لتبني التوجهات الأمريكية الرامية لمواجهة التقدم التكنولوجي للصين، إلا أن اعتماد تلك الدول على علاقات اقتصادية كثيفة مع الصين يجعلها حذرة في تنفيذ السياسات التي تقيد شركاتهم في مجال تصدير الرقائق، لا سيما أن القيود الأمريكية تُشكل عائقًا أمام مبادئ العولمة التي تقر حرية تدفق الأفكار والسلع والبضائع، فضلًا عن حركة التجارة بين الدول. لذلك أعلنت الصين إقامة دعوى قضائية ضد الولايات من خلال آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، بشأن ضوابط تصدير الرقائق الإلكترونية.
(#) تعزيز قدرات الصين لإنتاج الرقائق: رغم أن الصين غير قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الرقائق وأشباه الموصلات، إلا أنها تصدر رقائق بقيمة 100 مليار دولار أمريكي، في حين تستورد بأكثر من 300 مليار دولار، كما تصنع 28 في المئة من معدات إنتاج أشباه الموصلات التي يطلبها صانعو الرقائق، وذلك وفقًا لتقديرات شركة "اتش إس بي سي هولدنج"، وفي عام 2020 استوردت الصين معدات أشباه الموصلات بقيمة 13.7 مليار دولار من الخارج، بزيادة أكثر من 30 في المائة، مُقارنة بعام 2019، وهو ما يعني أن الصين لديها قدرات تخزينية كبيرة. وفي مواجهتها للعقوبات الأمريكية كشفت العديد من التقارير الإعلامية عن اتجاه الصين لإعداد حزمة دعم بقيمة تريليون يوان، (143) مليار دولار، لصناعة أشباه الموصلات، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من الرقائق ومواجهة التحركات الأمريكية التي تهدف إلى إبطاء تقدمها التكنولوجي، فضلًا عن تكثيف الدعم لشركات الرقائق الصينية من أجل بناء أو تحديث المرافق المحلية للتصنيع والتجميع والتعبئة والبحث والتطوير. يضاف إلى ذلك أن تايوان تمتلك إحدى الشركات العملاقة وهي شركة TSMC الرائدة في مجال صناعة الرقائق، حيث يقدر رأسمالها السوقي بـ 350 مليار دولار، أي ما يعادل خمسة أضعاف شركة انديتكس الأمريكية التي تقوم بصناعة الرقائق. وهو ما يعد أحد الأسباب التي تدفع ببكين للسعي لضم الجزيرة إليها، ورفض أي مؤشرات على استقلالها مثلما حدث مع رد فعل الصين على زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة.
مجمل القول أن حرب الرقائق بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، تكشف عن أحد تجليات التنافس الدولي بين القوتين العظميين من خلال توظيف القدرات الاقتصادية في الصراع على قمة النظام الدولي، بهدف الحد من الصعود الصيني ومحاصرة تمدده على مسرح السياسة الدولية، وهو ما يشكل اختبارًا لمدى قدرة الصين على الصمود أمام تلك التحديات، وما إذا كانت قادرة على تعزيز قدراتها الذاتية لإنتاج معدات الرقائق وأشباه الموصلات.