خلال قمة تحالف أوكوس في 13 مارس 2023 بقاعدة شان دييجو في كاليفورنيا، أعلن قادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، عن خطة تطوير غواصات محملة بتسليح تقليدي وعاملة بالدفع النووي تحمل اسم "إس إس إن-أوكوس"، على مدى زمني يمتد إلى 2055، حيث تتسلم البحرية الأسترالية أول غواصة في العقد الرابع من القرن الحالي، على أن تتسلم 3 غواصات من الولايات المتحدة منه طراز فرجينيا يمكن زيادتها إلى 5 غواصات إذا اقتضت الضرورة، فيما تتسلم المملكة المتحدة أولى الغواصات في أواخر ثلاثينيات القرن الحالي.
وتتضمن الخطة تعزيز قدرات البحرية الملكية الأسترالية ودعم امتلاكها تكنولوجيا إنتاج الغواصات الحديثة من خلال رفع كفاءة البنية التحتية والقدرات الفنية للكوادر المدنية والعسكرية في بناء وصيانة وتشغيل الغواصات التقليدية العاملة بالدفع النووي، حسب البيان المشترك الصادر عن قمة الزعماء الثلاث.
وأثار الإعلان ردود فعل غاضبة في الصين وروسيا، خاصة في ظل خطط نقل تكنولوجيا سرية لم تتشاركها الولايات المتحدة سوى المملكة المتحدة في 1958، لتكون أستراليا القوة السابعة عالميًا التي تمتلك غواصات عاملة بالطاقة النووية، بالتوازي مع التعهد بصون النظام العالمي لعدم الانتشار النووي، ليبقى السؤال، كيف ينعكس اتفاق أوكوس على المشهد الأمني في منطقة المحيطين خصوصًا والمشهد العالمي عمومًا؟
توازن جديد:
جاء الإعلان عن توقيع تحالف أوكوس وسط بيئة استراتيجية شديدة الخطورة تتزايد معها وتيرة التحول في منطقة الإندوباسيفيك، حيث ارتفعت معها واردات الأسلحة إلى آسيا وأوقيانوسيا بنسبة 41% من إجمالي واردات الأسلحة العالمية خلال الفترة من 2018 إلى 2022، حسب تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي الصادر في 13 مارس الجاري. ويمكن استعراض التغيرات البارزة في منطقة المحيطين الهندي والهادي على النحو التالي:
(*) تغيير الاستراتيجيات الدفاعية: تحتل استراتيجية تحديث الأسطول البحري والقدرات العسكرية الأسترالية لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد أولوية كبرى لدى كانبيرا، تماشيًا مع توجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لبناء قوة كبرى في منطقة المحيطين تواجه أي تغير محتمل في موازين القوى الإقليمية وإقدام الصين على ضم تايوان بالقوة.
وتسلمت حكومة أستراليا التقرير النهائي من "المراجعة الاستراتيجية للدفاع DSR"، في 14 فبراير الماضي، والتي جاءت بحسب رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز لدعم الاستجابة الفعالة لأستراليا في مواجهة تحولات البيئة الاستراتيجية إقليميًا ودوليًا.
وبعد 18 شهرًا من إعلان اتفاق "أوكوس" بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، أعلن قادة البلدان الثلاث في 13 مارس الجاري عن الجدول الزمني لتنفيذ الاتفاق بتسليم كل من لندن وكانبيرا غواصات تعمل بالدفع النووي، ستصل إلى ثماني غواصات لصالح البحرية الملكية الأسترالية، حيث نقلت وكالة "رويترز" للأنباء عن مسؤول دفاعي أسترالي أن التكلفة التقديرية للبرنامج قد تصل إلى 386 مليار دولار أسترالي (ونحو 245 مليار دولار أمريكي)، منها نحو 6 مليارات أسترالي خلال السنوات الأربعة القادمة لصالح توسيع قاعدة غواصات وأحواض بناء غواصات.
وفي ذات الإطار، احتلت أستراليا المرتبة الرابعة بين قائمة مستوردي الأسلحة حول العالم بنسبة 4,7% من إجمالي الواردات في الفترة الزمنية ذاتها، مسجلة ارتفاعًا عن الفترة من 2013 إلى 2017 بنسبة 23%. كما جاءت كانبيرا، في المرتبة الثانية بين قائمة أكثر حلفاء الولايات المتحدة في آسيا تلقيًا للأسلحة بنسبة 8,4% من إجمالي صادرات الأسلحة الأمريكية.
كما سترفع الاتفاقية، أسطول المملكة المتحدة من الغواصات العاملة بالدفع النووي من 7 غواصات في الوقت الراهن إلى 19 غواصة، حسب صحيفة الجارديان البريطانية. وفي إطار التحديث الأخير للسياسة الخارجية والأمنية، رفعت لندن ميزانية الدفاع بنحو 5 مليارات جنيه إسترليني إضافية (6 مليارات دولار)، على مدار العامين القادمين، منها 3 مليارات إسترليني لصالح دعم مشروع الغواصات الأسترالية، العاملة بالدفع النووي، ونحو 1,9 مليار لصالح إعادة ملء المخزونات المتناقصة من دعم أوكرانيا.
(*) تغير خارطة التحالفات: عمق تحالف "أوكوس" من انخراط المملكة المتحدة في تحالفات منطقة الإندوباسيفيك، خاصة في أعقاب تولي ريشي سوناك رئاسة الحكومة، حيث تتحالف بريطانيا وإيطاليا واليابان في مشروع إنتاج مقاتلة متطورة من الجيل الجديد في 2035 وفق بيان مشترك صادر عن رؤساء وزراء لندن وروما وطوكيو في 9 ديسمبر 2022. وحسب بيانات صادرة عن الحكومة البريطانية، أصدرت لندن خلال 9 أشهر في عام 2022، 25 رخصة تصدير لمكونات غواصات لصالح حكومة تايوان، بقيمة 200 مليون دولار، وذلك ضمن خطط بناء 8 غواصات لصالح قوات الجزيرة لمواجهة مساع صينية محتملة لضم تايبيه بالقوة إلى البر الرئيسي.
وتزامن مع القمة، الإعلان عن تحديث المراجعة المتكاملة للسياسة الخارجية والدفاعية في المملكة المتحدة والتي اعتبرت الصين "تحديًا منهجيًا"، وانتقدت "تصرفات الحزب الشيوعي الصيني" التي تمثل حسب تعبير المراجعة تهديدًا للشعب البريطاني وأمنه وازدهاره، لافتةً إلى الشراكة العميقة بين بكين وموسكو ضمن مساعيهما لبناء نظام دولي جديد.
وقبيل القمة التقى رئيس الوزراء الأسترالي، نظيره الهندي ناريندرا مودي في ولاية جوجارات الهندية في زيارة استمرت لأربعة أيام، أعلن خلالها يوم السبت 11 مارس، على متن أول حاملة طائرات هندية إجراء تدريبات عسكرية أسترالية هندية، مثمنًا التعاون في مجال الدفاع مع نيودلهي على المستوى الثنائي وتعزيز التعاون الأمني بين أعضاء التحالف الأمني الرباعي (الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا) حيث تستضيف كانبيرا القمة القادة لزعماء التحالف في مايو المقبل.
ونقلت وكالة أنباء كيود اليابانية عن رئيس الوزراء فوميو كيشيدا تأييده لاتفاق أوكوس، خلال اتصال هاتفي، يوم الثلاثاء 14 مارس 2023، واعتبرت طوكيو أن أطراف الاتفاق يسهمون في تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الإندوباسيفيك.
ماذا تحمل سياسة التحالفات لمنطقة الإندوباسيفيك؟
بات من المسلم به أن استمرار الأزمة الروسية الأوكرانية أشعل سباق التسلح بين القوى الكبرى وحلفائهم الرئيسيين في مختلف أقاليم العالم التي تشهد نزاعات ممتدة منذ الحرب العالمية الثانية على وقع النزاعات الحدودية خاصة في منطقة المحيطين وجمدت مفاوضات السلام بين روسيا واليابان في ظل عدم وجود اتفاقية صداقة بين الجانبين، وخلقت حقائق جديدة ستؤثر على أمن المنطقة على النحو التالي:
(#) تعاون أمني عابر للإندوباسيفيك: إلى جانب المملكة المتحدة، بات تأمين سلاسل الإمداد العالمية المدنية منها والعسكرية نقطة تلاقي بين منطقة الإندوباسيفيك والقارة الأوروبية، في ظل اتفاقيات التعاون العسكري التقني، حتى بين القوى المترددة في تصدير التوجهات السلبية تجاه الصين، على غرار كوريا الجنوبية التي وقعت عقودًا لتوريد ونقل تكنولوجيا أسلحتها من دبابات وقطع مدفعية وطائرات مقاتلة إلى بولندا.
وكشفت وكالة "رويترز" في 8 مارس الجاري عن موافقة سول على منح وارسو رخصة تصدير مكونات أسلحة وذخائر مدافع هاوتزر كورية إلى كييف من طراز كراب، رغم تأكيد وزارة الدفاع الكورية على موقفها من عدم الانخراط في الصراع الروسي الأوكراني ورفض تزويد كييف بمساعدات فتاكة.
(#) هيكلة أمنية مضطربة: يمثل "أوكوس" إحدى حلقات تحالف الولايات المتحدة في منطقة الإندوباسيفيك، والمعني بتعزيز القدرات العسكرية لأستراليا في القطاع الجنوبي من المحيط الهادي، وضمن جهود واشنطن للحفاظ على "منطقة حرة ومفتوحة للملاحة البحرية" أمام تصاعد النفوذ العسكري الصيني، يعكس حضور واشنطن القائم ولندن خلال الفترة المقبلة في البيئة البحرية لمنطقة المحيطين عبر تبادل زيارات الموانئ الأسترالية حتى تسليم كانبيرا غواصات فرجينيا.
ومن المستهدف أن يتعزز التحالف الأوسع تحت قيادة مجموعة الحلفاء الرئيسيين لواشنطن في المنطقة والمتجسدة في مجموعة الحوار الأمني الرباعي كواد، وهي اليابان وأستراليا والهند (إلى جانب الولايات المتحدة)، والتي تجسد مثلث تطويق النفوذ العسكري للصين على امتداد جنوب وغرب المحيط الهادي، وتبدو الهند بعيدة نسبيًا عن هذا التنافس.
وتكمن الأزمة في البيئة الاستراتيجية شديدة التحول والتفاعلات غير المنضبطة بين التحالف الأمريكي الناشئ، ونظيره بين روسيا والصين اللتين انتقدتا تزويد أستراليا بتكنولوجيا نووية، وفي المقابل باتت التدريبات العسكرية بين الجانبين في المياه الدولية إحدى الحقائق البارزة، ففي أعقاب إعلان طوكيو تحديث استراتيجيتها الدفاعية، أجرت البلدان في 21 ديسمبر 2022 مناورات بحرية مشتركة بالذخيرة الحية في بحر الصين الشرقي قبالة سواحل اليابان، استمرت عدة أيام وتضمنت عمليات إطلاق صواريخ وقذائف مدفعية على أهداف جوية وبحرية وأعمال مكافحة الغواصات.
وإجمالًا؛ تتزايد خطورة البيئة الاستراتيجية في منطقة المحيطين، مع تغير الاستراتيجيات الدفاعية للقوى الإقليمية ودخول العديد من القوى غير المشاطئة على خط التنافس، ما دفع أستراليا لواجهة الصراع كونها حلقة الوصل بين أطراف المعادلة الأمنية الإقليمية الجديدة في الاستراتيجية الأمريكية. وينطوي سباق التسلح واستعراض القوى بين الأطراف المتصارعة في منظومة الإندوباسيفيك على مخاطر أمنية كبرى مع استدعاء المزيد من القوى لساحة صراع النفوذ، خاصة في اتجاه اليابان وجزيرة تايوان، يليها منطقة جنوب المحيط الهادي التي لا تزال موضع تنافس محموم بين الولايات المتحدة وأستراليا من جهة والصين من جهة أخرى.