في أعقاب جولة أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، إلى كازاخستان وأوزباكستان، في 28 فبراير 2023، التي استمرت لمدة يومين، برزت استدارة القوى الكبرى نحو منطقة آسيا الوسطى عبر تفعيل صيغة الحوار متعدد الأطراف وتقديم المساعدات الاقتصادية والدعم المالي لدول المنطقة.
عززت المنطقة من نفوذ الاتحاد السوفييتي كقوة جيوسياسية مهيمنة على مجال أوراسيا الأرضي تاريخيًا، الذي يعرف في الأدبيات الجيوسياسية بالجزيرة العالمية في مواجهة القوة الأمريكية البحرية، إذ كانت نقطة انتقال جوهرية بين أقاليم الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
الأهمية الاستراتيجية
تكمن الأهمية الاستراتيجية لمنطقة آسيا الوسطى في موقعها الحيوي بين الصين من جهة الشرق وروسيا من الشمال والشمال الغربي وإيران من جهة الجنوب الغربي، بينما تفصلها أفغانستان من الجنوب عن الهند كما يفصلها من الغرب بحر قزوين عن جنوب القوقاز. وهو ما يعزز من إمكاناتها الاقتصادية الواعدة، ويشعل في الوقت ذاته صراع النفوذ بين القوى الكبرى والمتوسطة.
(*) ممر اقتصادي: تتقاطع المصالح الجيواقتصادية للقوى الكبرى والقوى الصاعدة في منطقة آسيا الوسطى، نظرًا لوفرة موارد الطاقة خاصة لدى كازاخستان وتركمنستان، كانت بداية الإعلان عن مبادرة الرئيس الصيني شي جين بينج "الحزام والطريق"، في 2013، انطلاقًا من كازاخستان، كممر رئيسي لطريق الحرير البري الذي يربط بين الصين والأسواق الأوروبية ويتضمن حزمة من مشروعات البنية التحتية تعزز من نفوذ بكين الاقتصادي، خاصة في كازاخستان على صعيد أمن الطاقة الأحفورية "النفط والغاز"، التي استثمرت الصين فيها 14 مليار دولار منذ 2019، وكذلك الطاقة النووية، وتمتلك أستانة احتياطيات ضخمة من اليورانيوم.
(*) محور أمني: ارتبطت المنطقة بالتطورات في أفغانستان، خلال الحقبة السوفييتية وخلال التدخل الغربي، من خلال تدشين قواعد عسكرية تدعم عمليات الجيش الأمريكي في مكافحة الإرهاب، منها قاعدتان عسكريتان في كل من أوزبكستان وقيرغيزستان قبل أن يتم تفكيكهما في 2005 و2014 على التوالي.
اهتمام متزايد:
تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في نقص تدفقات وتحويلات العاملين بالخارج، خاصة في الأراضي الروسية التي تمثل بدورها من 10 إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي، خاصة في دول قيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان،
(*) جولات متعددة: كانت منطقة آسيا الوسطى محورًا مهمًا في تفاعلات الولايات المتحدة وروسيا والصين في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وكان من اللافت انتقاد بعضها للحرب مع الحفاظ على توازن موقفها بين موسكو والشركاء الغربيين. وحظيت المنطقة بزيارات متعددة للرئيس الروسي، آخرها منتصف سبتمبر الماضي، خلال قمة منظمة شنجهاي للتعاون في سمرقند بأوزبكستان، التي شهدت حضور الرئيس الصيني شي جين بينج، في أول جولة خارجية له منذ ثلاث سنوات، استهلها من كازاخستان في 14 سبتمبر 2022.
(*) تفعيل الشراكات الاستراتيجية: انطلقت في 16 فبراير الماضي، النسخة الأولى من منتدى التعاون الصناعي والاستثماري بين الصين ودول آسيا الوسطى بصيغة "C+5C"، شرقي الصين، وتضمن نقل رسالة الرئيس الصيني لدول آسيا الوسطى عن رغبة بلاده في البناء على الشراكات الاستراتيجية بين الجانبين في تعميق التعاون بمجالات الصناعة ونقل التكنولوجيا المتقدمة وتعزيز التكامل الصناعي الإقليمي.
وفي 27 فبراير 2023، أجرى وزير الخارجية الأمريكي زيارة مماثلة، إلى كل من كازاخستان وأوزبكستان، التقى رئيسي البلدين قاسم جومارت توكاييف، وشوكت ميرضيائيف، كما عقد لقاء مع نظرائه الخمسة عبر آلية "C5+1" في العاصمة الكازاخية أستانة، الأربعاء 1 مارس الجاري، في أول لقاء على المستوى الوزاري منذ تدشين تلك المنصة في 2015.
صراع محتمل:
من خلال إيجاز خريطة تحركات وتفاعلات القوى الكبرى في منطقة آسيا الوسطى، يمكن استكشاف أنماط الصراع المحتمل في أرجاء المنطقة على النحو التالي:
(*) المداخل الأمنية: تمثل الأقليات العرقية في دول آسيا الوسطى أدوات ضغط محتملة، خاصة في علاقات تلك البلدان مع روسيا في ظل وجود ما يقرب من 3.5 مليون مواطن من أصل روسي من إجمالي 19 مليون نسمة، فضلًا عن توجه نحو 200 ألف روسي، إلى الأراضي الكازاخية في أعقاب إعلان الرئيس بوتين التعبئة الجزئية، سبتمبر الماضي، حسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
ويعد ذلك سببًا مقنعًا لموقف أستانة الأكثر ميلًا بين مجموعة دول آسيا الوسطى إلى الحياد، فعلاوة على وجود 250 ألف كازاخي من أصل أوكراني، رفض الرئيس توكاييف الاعتراف بضم روسيا لأراضي أوكرانية، في إطار السياسة الإنسانية الجديدة التي تبنتها القيادة الروسية في دعمها للأوكرانيين، من أصل روسي في شرق أوكرانيا منذ 2014، وتخول تلك السياسة لموسكو التدخل بالوسائل الضرورية لحماية حقوق الأقليات الروسية في الخارج، بجانب حضور بعض الأصوات في البرلمان الروسي، التي تدعي سيادة بلادهم على أراضي كازاخية.
ومن ثم قد تستغل الولايات المتحدة مخاوف بعض الدول في تسويق درجة من الدعم والتعاون الأمني والعسكري، وحث دول المنطقة على إظهار المزيد من الدعم والتضامن مع أوكرانيا، من خلال تأكيد مبدأ احترام سيادة كل دولة على إقليمها، وهو ما كان موضع تركز في كلمات أنتوني بلينكن في الزيارة الأخيرة.
ويمكن رؤية حضور أمريكي وغربي في حلحلة الخلافات الحدودية بين كل من طاجيكستان وقيرغيزستان على غرار مساعي احتواء الصراع الأذري-الأرميني في جنوب القوقاز، التي يبذلها الجانب الأوروبي في إطار رؤية أوروبا الجيوسياسية عبر نشر قوة مراقبة على الحدود بين البلدين، وفي تلك الحالة قد يظهر تمايز الدعم الروسي للحلفاء في حالة تطور الصراع، بانحياز موسكو إلى بيشكيك نتيجة العاملين الجغرافي والديمغرافي.
(*) الاستثمار في التكتلات: تفتقد منطقة آسيا الوسطى لقيادة إقليمية واضحة تحول دون حدوث فراغ، إذا ما تراجع الغطاء الأمني الروسي تحت مظلة معاهدة الأمن الجماعي، وفي هذا السياق سيتصاعد التنافس الأمريكي الصيني على النفوذ الاقتصادي والتعاون الأمني، مما سيوفر لدول المنطقة حيز مناورة بين الشركاء المتنافسين، وتسعى الصين لإحلال النفوذ الروسي وتحييد الدور الأمريكي.
وتمتلك الصين ميزة نسبية أكبر من الولايات المتحدة في أي صراع محتمل على قيادة أي ترتيب إقليمي جديد، فعلاوة على التكتلات الإقليمية القائمة، تلتقي الصين مع ثلاث من دول آسيا الوسطى هي كازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، ويوفر التعاون مع بكين آلية للنمو والاستقرار، انطلاقًا من التشابك الجغرافي وقدرات الصين التمويلية الضخمة. وللدلالة على ذلك حقق محور "الصين-أوروبا" أو "الممر الأوسط Middle Corridor"، زيادة قياسية في حجم الشحنات التجارية من مستوى 530 ألف طن في 2021، إلى نحو 3.2 مليون طن في 2022، حسب معهد أبحاث السياسة الخارجية.
(*) خطوط الاشتباك المحتملة: تحتل كازاخستان المرتبة الأولى بامتياز على قائمة التنافس الاستراتيجي وأكثر حالاته خطورة، نظرًا لموقعها الملاصق لروسيا والصين وتركيبتها الديمغرافية، لكن أولى مراحل التنافس تتمثل في الاستثمارات بمجال الطاقة، إذ ستسعى الولايات المتحدة لدعم صناعة الطاقة النظيفة والمساعدة في جهود التحول للاقتصاد الأخضر عبر ضخ استثمارات في قطاع الطاقة.
وإجمالًا؛ تفضل دول آسيا الوسطى الحفاظ على علاقات إيجابية مع كل الشركاء الدوليين، خوفًا من الانخراط في صراع قد يقوض سيادتها على أراضيها، ويوفر الموقع لكازاخستان ميزة استراتيجية كونها منفذ روسيا البري الأقرب لباقي دول المنطقة، مما يجعل الاستثمار في تعزيز قدرتها كقائد إقليمي من جانب، لكن حدودها المشتركة مع روسيا شمالًا والصين شرقًا يحد من قدرة الولايات المتحدة على استمالتها دون تأجيج نزاع مع روسيا. وفي سياق التنافس الاقتصادي تكتسب الصين أولوية كبرى في إطار مبادرة الحزام والطريق التي تعزز الترابط بينها وبين كل من كازاخستان وأذربيجان وجورجيا وتركيا، وبالنتيجة تبرز الحقائق التالية؛ تمثل كازاخستان محور مشروعات التنافس الإقليمي والدولي في آسيا الوسطى، ويرتبط أمن المنطقة وازدهارها الاقتصادي بتشابك مصالحها مع منطقة جنوب القوقاز في إطار محور الصين-أوروبا.