شكلت فكرة الاستدراج في العلاقات الدولية أحد المفاتيح الرئيسية، لفهم الموقف الأمريكي من الحرب الروسية الأوكرانية، لاسيما أن الذكرى الأولى للحرب التي اندلعت في 24 فبراير 2022، تتيح لنا الفرصة لتقييم المواقف وحدود المكاسب والخسائر التي مُنيت بها الأطراف التي تُشارك في الحرب بشكل مباشر، أو من خلال حرب الوكالة التي تخوضها أوكرانيا، بدعم من الحلفاء الغربيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.
وتنطلق فكرة الاستدراج التي تجيدها الولايات المتحدة الأمريكية عبر تاريخ صراعاتها الدولية، من خلال استدراج الخصم لانتهاج سلوك ما، ثم تسدد له الضربات لتحقيق أهدافها. وقد نجحت الولايات المتحدة وفق أنصار منطق الاستدراج في سحب روسيا للمستنقع الأوكراني، وقد تجلى ذلك بوضوح في التصريحات الرسمية الأمريكية التي كانت تؤكد على الغزو الروسي لأوكرانيا، حتى قبل أن تقوم روسيا بشن عملياتها العسكرية على أوكرانيا، وقد بدت تلك التصريحات وكأنها استدراج لروسيا، وقد هدفت الولايات المتحدة لتحقيق العديد من المكاسب، فضلًا عن دعم الرغبة الأوكرانية في الانضمام لحلف الناتو مع تأكدها من أن روسيا لن تسمح بذلك بعد انضمام غالبية دول حلف وارسو لحلف الناتو، بل وانضمام ثلاث من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق هي لاتفيا وليتوانيا وإستونيا.
مكاسب مُتعددة
تتنوع المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب الروسية الأوكرانية، والتي يُمكن إبراز أهمها في العناصر التالية:
(*) عودة أوروبا للمظلة الأمريكية: قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية تنامت الدعوات الأوروبية لتأسيس جيش أوروبي مستقل لحماية الأمن الأوروبي، وقد تبنى تلك الدعوة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في نوفمبر 2018 مُطالبًا بإنشاء جيش أوروبي مستقل؛ لتمكين أوروبا من الدفاع عن نفسها بشكل مستقل، وقد أيدت الفكرة المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، وأعلنت في خطاب لها أمام البرلمان الأوروبي في 13نوفمبر 2018: علينا تطوير أدواتنا السياسية للعمل على مصلحة مواطنينا، ولكن علينا العمل على رؤية تواجد جيش أوروبي حقيقي، مع التأكيد على أن هذه الفكرة لا تتعارض مع انتشار حلف الناتو في أوروبا. غير أن الموقف الأمريكي لم يكن داعمًا لاستقلالية الأمن الأوروبي عن المظلة الأمريكية، ووصف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الفكرة التي طرحها "ماكرون" بأنها مهينة للغاية. لذلك شكلت الحرب الروسية الأوكرانية دافعًا لاستعادة حيوية حلف الناتو تحت المظلة الأمريكية التي تعد الممول الأكبر لأنشطة الحلف وعملياته، وتدعمت العلاقات بين دوله التي اتجه عدد منها لزيادة الإنفاق العسكري لمواجهة التهديدات الروسية.
(*) الحد من الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين روسيا وأوروبا: شكل خط أنابيب "نورد ستريم 2" لنقل الغاز الروسي لألمانيا ومنها إلى أوروبا، والذي اكتمل بناؤه وكاد يفتتح، وكان من شأن تشغيله أن يزيد من حالة الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين ألمانيا وروسيا من ناحية، ومنه إلى باقي أوروبا من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي شكل هاجسًا للولايات المتحدة الأمريكية، وتراه تهديدًا لمصالحها في أوروبا. ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وفرض العقوبات الغربية على روسيا ومن بينها مجالات الطاقة مثل النفط والغاز، بما أدى إلى الحد من الاعتماد المتبادل على الطاقة الروسية في أوروبا، التي كادت أن تمثل نقلة نوعية في طبيعة العلاقات الاستراتيجية بين أوروبا وروسيا في حال استمرار التعاون بين الجانبين، حتى اندلعت الحرب، وما كان لتداعياتها من البحث الأوروبي عن بدائل للطاقة الروسية، لتضع الحرب حدًا لكثافة تلك العلاقات، لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت تورد الغاز لأوروبا بأسعار مرتفعة حتى تظل الضامن الرئيسي لأمن واستقرار أوروبا، وهو ما جعلها تنجح في الحد من الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين أوروبا وروسيا الذي مثل تهديدًا لمكانتها الدولية.
(*) تزايد مبيعات الأسلحة الأمريكية: أدت الحرب الروسية الأمريكية إلى اتجاه العديد من الدول لزيادة مخصصات إنفاقها العسكري، فعلى سبيل المثال أعلنت ألمانيا عن زيادة إنفاقها العسكري إلى ما يقرب من 100 مليار يورو، كما أعلنت اليابان عن تغيير عقيدتها العسكرية واتجاهها نحو زيادة إنفاقها العسكري؛ ليصل إلى ما يقرب من 74 مليار دولار. ولما كانت الولايات المتحدة الأمريكية لديها 40 شركة من الـ100 شركة التي تُهيمن على سوق السلاح العالمي، فإن مبيعات الأسلحة الأمريكية أصبحت الأكثر انتشارًا على مستوى العالم، بعد اندلاع الحرب في ظل تزايد التهديدات للأمن الأوروبي. وترجمة لذلك فقد أعلنت مجلة "بريكينج ديفينس" أن مبيعات الأسلحة الأمريكية للخارج بلغت في 2022 نحو 53 مليار دولار، بزيادة نسبتها تقترب من 50 في المئة، مقارنة بعام 2021، إذ سجلت 34.8 مليار دولار، كما أكدت وكالة تعاون الأمن الدفاعي الأمريكية(DSCA) أن مبيعات السلاح الخارجية خلال عام 2022 حققت قفزة كبرى تقترب نسبتها من 50 بالمئة، وذلك بسبب تأثيرات الأزمة الروسية الأوكرانية، وتصاعد التوترات مع الصين في منطقة الإندوباسيفيك، فضلًا عن تراجع المخاوف من تأثيرات جائحة كورونا.
(*) سباق مكثف للتسلح: هدفت الولايات المتحدة إلى استنزاف القدرات العسكرية الروسية التي تمثل الند العسكري الوحيد لها في النظام العالمي، وقد لعب ذلك الاستنزاف دورًا في انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة بتفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 بعد أن أنهكه الرئيس الأمريكي رونالد ريجان (1980 -1988) في سباق مكثف للتسلح كان أحد العوامل التي ساعدت على السقوط السوفييتي وتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية. ويبدو أن التاريخ يُعيد نفسه، ففي الذكرى الأولى للحرب الروسية الأوكرانية أعلن الرئيس، فلاديمير بوتين، عن تعليق روسيا لمشاركتها في معاهدة "نيو ستارت" الروسية الأمريكية، بشأن الحد من انتشار السلاح النووي، قائلًا "يريدون إلحاق هزيمة بنا ومهاجمة مواقعنا النووية، ولهذا السبب بات واجبًا عليّ أن أعلن أن روسيا ستعلق مشاركتها في معاهدة نيو ستارت". هذا التعليق ربما يؤدي إلى سباق تسلح عسكري ونووي بين القوى الكبرى، بما سيؤدي إلى إنهاك متبادل وحرمان التنمية من مخصصات ذلك السباق الذي يستنزف قدرات تلك القوى.
تحديات ماثلة
برغم المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن ثمة تحديات تواجه واشنطن يُمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) محدودية التحالف الغربي: على الرغم من سعى الولايات المتحدة الأمريكية لتشكيل تحالف موسع من الحلفاء في جميع أقاليم العالم المختلفة؛ لمواجهة تداعيات الحرب، إلا هناك العديد من الدول التي لم تنخرط في تلك الحرب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما جعل واشنطن تخفق في تشكيل تحالف دولي لمواجهة روسيا، لاسيما في ظل تمايز مصالح الحلفاء وفي مقدمة تلك الدول الهند التي تُعد أحد الأقطاب الاقتصادية البازغة على مسرح السياسة الدولية، وتُعد من أهم حلفاء واشنطن. ويعود ذلك إلى تشابك المصالح الاقتصادية بين روسيا والهند، حيث ازداد تصدير النفط الروسي إلى الهند في 2022 بحيث أصبحت روسيا أكبر مُصدر للنفط إليها، وفى يناير 2023 غطى النفط الروسي ربع احتياجات الهند.
(*) التحديات الاقتصادية: شكلت التحديات الاقتصادية التي أفرزتها الحرب إحدى المعضلات التي تُواجه الاقتصاد الأمريكي، في ظل ما أنتجته العولمة من عمليات تشبيك بين الاقتصادات المختلفة، فقد ارتفعت نسب التضخم في الاقتصاد الأمريكي، بعد اندلاع الحرب، بما أدى إلى اتجاه الفيدرالي الأمريكي إلى رفع نسب الفائدة للسيطرة على التضخم. كما أدت عمليات الانكماش في العديد من الاقتصادات الغربية إلى تزايد المطالب برفع الأجور حتى تتواءم مع الارتفاعات المتتالية للأسعار في ظل معاناة معظم فئات الطبقة الوسطى في مختلف دول العالم.
(*) الخسائر الأوكرانية: وفقًا لتقييم البنك الدولي والمفوضية الأوروبية والحكومة الأوكرانية في سبتمبر 2022 فإن تكلفة إعادة الإعمار والتعافي في أوكرانيا، بلغت ما يقرب من 349 مليار دولار، وهي تكلفة كبيرة للغاية في ظل استهداف العمليات الروسية للبنية الأساسية من محطات للكهرباء والمياه والطرق، وهو الأمر الذي جعل وزيرة الاقتصاد الأوكراني، يوليا سفيريدنكو، تُشير إلى تعرض الاقتصاد الأوكراني خلال عام 2022 لأكبر خسائر وانهيارات في تاريخه منذ الاستقلال بسبب الحرب. وقد أدى ذلك إلى إنهاك أوكرانيا التي تم تدمير جزء كبير من بنيتها التحتية، واضطرار ما يزيد على 13 مليون مواطن أوكراني إلى مغادرة مدنهم وقراهم ما بين لاجئ ونازح في دول الجوار وغيرها. وبرغم تنامي الحديث الأمريكي عن دعم أوكرانيا بما يقرب من 50 مليار دولار، إلا أن الخبرات التاريخية، تُؤكد البعد المصلحي للولايات المتحدة لتقديم هذا الدعم للحفاظ على هيمنتها على الأمن الأوروبي، حيث خلص كتاب "خطة مارشال: فجر الحرب الباردة" The Marshall Plan: Dawn of the cold war، إلى أن الولايات المتحدة لم تمول أوروبا الغربية عبر مشروع مارشال بهدف مساعدة الدول الأوروبية، وإنما جاء ذلك لمنعها من السقوط تحت سيطرة المد الشيوعي.
(*) تنامي العلاقات الروسية الآسيوية: يشكل تنامى العلاقات الروسية الآسيوية أحد التحديات التي تواجه السياسة الأمريكية، لاسيما بعد إعلان الصين وروسيا عن شراكتهما الاستراتيجية في 4 فبراير 2022، من خلال بيان وقعه الرئيسان، فلاديمير بوتين وشي جين بينج، والتي اعتبرها البيان صداقة بلا حدود، وجاء الإعلان بعد مرور عام في فبراير 2023 عن دخول تلك الشراكة إلى حيز التنفيذ. وقد انعكست تلك الشراكة على تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، إذ زادت صادرات روسيا من النفط إلى الصين بنسبة 22 في المئة في سبتمبر 2022 عن نفس التوقيت في العام السابق، كما أصبحت موسكو تحتل المرتبة الثانية بين الدول المصدرة للنفط إلى الصين بعد السعودية.
مُجمل القول إن الخسائر الأمريكية من الحرب الروسية الأوكرانية، بعد مرور عام تكاد لا تُذكر مُقارنة بالمكاسب من تلك الحرب، لاسيما أنها نجحت في وقف كثافة التعاون الاقتصادي بين روسيا وأوروبا، عبر خطي الغاز نورد ستريم، بما يعني إنهاء الحد من الاعتماد المتبادل بين الجانبين لصالح إعادة الاعتبار للمظلة الأمريكية المهيمنة اقتصاديًا وعسكريًا على أمن الدول الأوروبية، التي سعت لرفع مخصصات إنفاقها العسكري، لمواجهة التهديدات الروسية، وهو بلا شك سيصب في مصلحة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وبما يعني أيضًا الحفاظ على الهيمنة الأمريكية على المستوى العالمي.