تدخل العلاقات الأمريكية الإيرانية عام 2026 في منعطف حساس، وسط استمرار التوترات في الشرق الأوسط، وبقاء أزمة البرنامج النووي الإيراني بدون حل أو تسوية، وتبني إدارة ترامب الثانية نهجًا يمزج بين الضغوط القصوى والدبلوماسية المشروطة، فبينما تبدو واشنطن عازمة على تقييد النفوذ الإيراني في المنطقة، فإنها في الوقت نفسه تدرك أن أي مواجهة عسكرية شاملة ستكون مكلفة داخليًا وخارجيًا.
في هذا السياق، تُثار العديد من التساؤلات مثل: إلى أين تتجه السياسة الأمريكية تجاه إيران في 2026؟ ما الجديد المؤثِّر في محددات هذه السياسة وكيف يمكن تصوُّر مساراتها وسيناريوهاتها؟ فهل سيهيمن عليها منطق المواجهة أم عمليات احتواء محسوبة؟
في ضوء ما سبق، يأتي هذا التحليل ليقدم رؤية استشرافية للمسارات المحتملة للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران في العام المقبل، وذلك بالتركيز على النقاط الأساسية التالية:
محددات ومعطيات مهمة
قد يصبح عام 2026 مفصليًا في السياسة الخارجية تجاه إيران، وذلك استنادًا إلى المعطيات الأمريكية والإقليمية الراهنة التي يأتي في مقدمتها ما يلي:
(*) عودة سياسة الضغوط القصوى الأمريكية تجاه إيران: أعادت إدارة ترامب 2025 تفعيل العقوبات الواسعة على إيران بشكل مكثف، سواء على قطاع الطاقة أو القطاع المصرفي، مع استحداث عقوبات على مسؤولين ومؤسسات مرتبطة بالحرس الثوري والبرنامج النووي. وتم تكليف شخصيات مقربة من ترامب بملف إيران، ما يؤشر لنهج أكثر تشددًا، وقد يسهم في استمرار تبني هذه السياسة خلال العام المقبل، سرعة التقدم في برنامج إيران النووي، فكلما تسارعت عمليات تخصيب اليورانيوم الإيراني، زادت احتمالات التصعيد الأمريكي.
(*) استمرار المفاوضات غير المباشرة رغم التصعيد بين طهران وواشنطن: رغم الخطاب المتشدد، أبقت واشنطن نافذة صغيرة للحوار عبر الوسطاء الأوروبيين، والخليجيين، أو حتى عبر أطراف آسيوية بهدف بحث اتفاق جزئي حول تخصيب اليورانيوم أو شفافية المواقع النووية مقابل تخفيف محدود للعقوبات.
ويُتوقع أن تتسع هذه النافذة خلال عام 2026 مع إمكانية ربط السياسة الأمريكية تجاه إيران مع استعداد واشنطن الراهن لشنِّ حرب على فنزويلا، فكل من إيران وفنزويلا -رغم اختلافهما الجغرافي والأيديولوجي- تشكلان جزءًا من محور مضاد لواشنطن، ويتقاطع في: معاداة النفوذ الأمريكي، والتعاون في النفط وتجاوز العقوبات، وعلاقات مع روسيا والصين، وبناء قنوات اقتصادية موازية للدولار.
بالتالي، أي تصعيد أمريكي مع طرف يؤثر تلقائيًا في حسابات الطرف الآخر، لذلك تتشابه أدوات وسياسة واشنطن تجاه البلدين، إذ يتم استخدام عقوبات اقتصادية خانقة، وعزل دبلوماسي، ودعم معارضين سياسيين، وتهديدات عسكرية محسوبة، وتجعل هذه المعادلة المشتركة أي تغيير في أحد الملفين مرآة للآخر.
(*) القيود الداخلية الأمريكية على خيار الحرب ضد إيران: رغم تلويح البيت الأبيض المتكرر بالخيار العسكري، فإن الكونجرس غير متحمس لمنح تفويض لحرب جديدة كما أن الرأي العام الأمريكي لا يؤيد الدخول في نزاع جديد، ويتزامن مع ذلك توزيع القوات الأمريكية بين التزامات آسيا وأوروبا، ويتبين من ذلك أن أي قرار أمريكي بالحرب على إيران خلال عام 2026 قد أصبح أصعب ومكلفًا سياسيًا.
(*) البيئة الإقليمية المعقدة في الشرق الأوسط: تواصل إيران تعزيز نفوذها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وهو ما دفع واشنطن لاعتبار التعامل مع النفوذ الإيراني جزءًا من سياستها الخارجية الأوسع وليس فقط الملف النووي، كما أن إسرائيل ودول الخليج تمارس ضغطًا على الإدارة الأمريكية لاتخاذ مواقف أقوى حيال طهران.
ما السيناريوهات المتوقعة للسياسة الأمريكية تجاه إيران في 2026؟
(*) السيناريو الأول (التهدئة المؤقتة من جانب واشنطن مع طهران): يذهب هذا السيناريو إلى إمكانية تجميد للصراع الإيراني والأمريكي خلال العام المقبل، وبقاء هذه الصراع بدون حل.
ويستند هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا إلى حالة تصاعد الأزمات الدولية، وانشغال واشنطن بملفات فنزويلا والصين وروسيا، فعلى سبيل المثال يمكن أن يؤثر الاستعداد الأمريكي الراهن لحرب محتملة في فنزويلا على ملف إيران، فيمكن استبعاد الحرب على إيران إذا فُتِحت جبهة فنزويلا، فالبيت الأبيض يدرك أن واشنطن لن تستطيع إدارة حربين في وقت واحد -حرب بعيدة في أمريكا الجنوبية مع فنزويلا، ومواجهة في الشرق الأوسط ضد إيران- فمن شأن أي عملية عسكرية في فنزويلا، أن يدفع واشنطن لتخفيف التصعيد أو تثبيته مع طهران.
لذلك قد تتجه إدارة ترامب عام 2026 لتبني نهج هادئ يقوم على تجميد التصعيد مقابل عدم رفع العقوبات، والضغط عبر الحلفاء بدلًا من المواجهة المباشرة، ومراقبة دقيقة للتقدم النووي الإيراني، فهذه السياسة تضمن منع الانفجار دون تقديم تنازلات كبيرة من جانب الولايات المتحدة لإيران.
ويعزز هذا السيناريو كذلك رغبة واشنطن في استعادة الاستقرار لإقليم الشرق الأوسط خاصة بعد إنهاء الحرب على غزة في أكتوبر الماضي.
(*) السيناريو الثاني (المزيد من ممارسة الضغوط الأمريكية على طهران مع تفاوض محدد معها): ينطلق هذا السيناريو من استمرار تهديدات التصعيد الأمريكي الإيراني لكنها تظل تهديدات محسوبة والتي قد لا تصل إلى العتبة العسكرية.
وتميل المؤشرات إلى استمرار واشنطن في نهج العصا والجزرة، وعقوبات اقتصادية أشد تستهدف النفط والشحن والتحويلات المالية ودبلوماسية مشروطة عبر وسطاء لإقناع إيران بقبول قيود جزئية على تخصيب اليورانيوم.
لذلك، يُحتمل وقوع هذا السيناريو عبر ممارسة واشنطن لضغوط قصوى تجاه طهران مع استعداها في الوقت نفسه للتفاوض المحدود معها، فهذا السيناريو يمنح واشنطن مرونة في التعامل مع إيران، فقد تتجه إدارة ترامب إلى تضييق الخناق على إيران بدون الانزلاق إلى حرب، والحفاظ على ورقة التفاوض لإدارة التوتر بينهما.
(*) السيناريو الثالث (إبرام الاتفاق النووي الجزئي بين الولايات المتحدة وإيران): قد تدفع وساطة أوروبية أو خليجية إلى صفقة صغيرة تشمل: سقف للتخصيب وإتاحة بعض المنشآت للمراقبة وتخفيف محدود للعقوبات لا يصل لمستوى اتفاق 2015.
ويتزايد احتمال وقوع هذا السيناريو إذا واجهت إيران ضغوطًا اقتصادية داخلية كبيرة مقارنة بالضغوط الراهنة، فكلما اشتدت الأزمة الاقتصادية، زاد احتمال قبول طهران بصفقة جزئية.
(*) السيناريو الرابع (توجيه ضربة عسكرية أمريكية محدودة ضد إيران): هذا السيناريو هو الأقل احتمالًا، فرغم أنه يظل موجودًا لكنه غير مرجح بسبب المخاطر على القوات الأمريكية في العراق والخليج، ورد الفعل الإيراني الواسع المتوقع (استهداف الملاحة، المنشآت النفطية، وغيرها)، فضلا عن الانقسام داخل واشنطن.
وقد يُستخدم هذا الخيار فقط إذا تجاوزت إيران الخطوط الحمراء النووية، مثل: الاقتراب من مرحلة السلاح النووي أو ميل إدارة ترامب لبنى سياسة قوية لإرضاء القاعدة الجمهورية، خاصة أن عام 2026 سيشهد انتخابات نيابية أمريكية مع تزايد ضغط الحلفاء على واشنطن لتبنى مواقف متشددة تجاه إيران وحثِّها على توجيه هذه الضربة للمنشآت الإيرانية النووية.
في النهاية، يمكن القول إنه من المتوقع أن يكون عام 2026 عام "الشد والجذب" بين واشنطن وطهران، في إطار إستراتيجية أمريكية تقوم على تعظيم الضغط على طهران دون الانزلاق إلى حرب، مع إبقاء خيار التفاوض مفتوحًا بنفس الوقت.
وعلى الرغم من ذلك، يبقى التصعيد العسكري واردًا، ومن الأرجح أن تعتمد واشنطن نهجًا مزدوجًا يجمع بين العقوبات القاسية، التهديدات المحسوبة، والدبلوماسية المحدودة عبر وسطاء.
ففي ظل المحددات والمعطيات الراهنة، لا حرب شاملة ولا سلام شاملًا بين واشنطن وطهران بل إدارة صراع طويلة الأمد من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، في انتظار تغيرات داخلية أو إقليمية قد تفرض صفقة أكبر في المستقبل مع إيران.