يُعاد اليوم طرح الملف اللبناني داخل واشنطن وبيروت وبعض دول الإقليم في ضوء تحركات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لانتزاع تسوية إقليمية تشمل غزة، لبنان، والحدود الشمالية لإسرائيل. فمنذ بداية العقد الماضي، شهدت السياسة الأمريكية تجاه لبنان العديد من التحولات الكبيرة، خاصة في ظل إدارة الرئيس الأمريكي؛ دونالد ترامب. فلبنان، الذي ظل طوال العقود الماضية ساحة تجاذب للقوى الإقليمية والدولية، وجد نفسه اليوم في مفترق طرق حاسم خلال هذه الفترة. لذلك تثير خطة ترامب لاستقرار لبنان العديد من التساؤلات التي تشكل المدخل الحقيقي لفهم المشهد اللبناني مثل؛ ما هي ملامح الخطة الأمريكية فعليًا؟ فهل هي مشروع لنزع سلاح حزب الله أم مشروع لإدارة توازن جديد؟ وما أهم التحديات التي تعوق أو تحول دون تنفيذ هذه الخطة على أرض الواقع؟ وما السيناريوهات التي تتنظر لبنان في ضوء هذه الخطة؟
في ضوء ما سبق، يأتي هذا التحليل للإجابة على التساؤلات السابقة عبر التركيز على النقاط التالية:
ركائز الخطة الأمريكية
تعمل إدارة ترامب على مقاربة لبنانية جديدة تستند إلى ثلاث ركائز هي: تهدئة الجبهة الشمالية لإسرائيل، وتعزيز قدرة الدولة اللبنانية على بسط الأمن، خلط المسار اللبناني بمسارات التفاهم في غزة وإيران.
وتقوم الخطة على خطوات متدرجة تشمل: دعم الجيش اللبناني لوجستيًا وماليًا، تشديد الرقابة على تمويل حزب الله، وإطلاق حزمة مساعدات اقتصادية مشروطة بالإصلاحات. وقد وجدت الخطة تربة سياسية "قابلة" بعد تشكيل حكومة لبنانية جديدة مطلع 2025، لكنها تربة مليئة بالألغام السياسية والطائفية.
وبصفة عامة، تعتبر خطة ترامب المتعلقة بلبنان جزءًا من سياسة "الضغط الأقصى" التي تبنتها إدارته تجاه العديد من دول والفصائل السياسية بالمنطقة، وعلى رأسها إيران وحزب الله اللبناني. وترتكز هذه السياسة على مجموعة من المحاور الرئيسة، منها:
(*) مكافحة النفوذ الإيراني: يمثل الحد من تأثير إيران في لبنان عبر إضعاف حزب الله، الذي تُصنّفه الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية، أحد أهم الأهداف الأساسية لسياسة ترامب في لبنان. كما يلعب الضغط على حلفاء إيران في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله، دورًا مهمًا في إستراتيجية ترامب تجاه الشرق الأوسط.
(*) توفير الدعم المالي للحكومة اللبنانية: سَعَت إدارة ترامب إلى تقديم مساعدات مالية للبنان، شريطة أن يكون ذلك مرتبطًا بإصلاحات سياسية واقتصادية ملموسة، بما يسهم في تقوية المؤسسات اللبنانية وضمان استقرارها.
(*) الموقف اللبناني من المسألة الفلسطينية: كان لموقف ترامب بشأن القضية الفلسطينية (إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وصفقة القرن) تأثير على موقف لبنان، الذي يقاوم ضغوطات أمريكية في هذا الملف، ويقف بشكل مستمر ضد الاعتراف بأي تسوية إقليمية لا تضمن حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
التحديات الجوهرية
تتعدد التحديات الجوهرية التي تُقيد قدرة واشنطن على تنفيذ خطتها لاستقرار لبنان، ويمكن تحديدها فيما يلي:
(*) الموقف الحاسم لحزب الله الرافض لخطة ترامب: في ضوء هذا الموقف أصبحت المعضلة الأساسية أمام واشنطن ليست عسكرية فحسب بل سياسية واستراتيجية. فحزب الله يعتبر نفسه طرفًا فوق تعاقدات الداخل اللبناني، ويرى سلاحه جزءًا من "إستراتيجية الردع" تجاه إسرائيل. وبالتالي يفسر الحزب أي خطة لنزع السلاح أو حصره داخل نطاق الدولة باستهداف وجودي للجماعة. لذلك فإن أي ضغط خارجي يؤدي إلى واحد من ثلاث نتائج محتملة: تعطيل حكومي، تصعيد ميداني محدود، أو إعادة خلط للأوراق الطائفية. وهذه النتائج المحتملة لا تسهل تنفيذ الخطة.
(*) هشاشة الوضع الحكومي اللبناني: تسعى الحكومة الحالية في لبنان برئاسة نواف سلام لتثبيت سيادة الدولة، لكنها تعمل فوق شبكة مواقف متعارضة ومتوترة. فهناك الانقسامات الطائفية، وخشية بعض القوى من خسارة نفوذها، تتسبب في تجميد أو تخفيف حدة أي قرار متعلق بـاحتكار السلاح. وهذه الهشاشة ليست فقط سياسية؛ هي أيضًا مؤسساتية؛ فالدولة غير قادرة على فرض قراراتها بدون توافق داخلي واسع.
(*) تراجع قدرات الجيش اللبناني: يُعتبر الجيش المؤسسة الأكثر ثقة في لبنان، لكنه يعاني من نقص في التمويل، والضعف في البنية اللوجستية، وتراجع أو تذبذب في الدعم الدولي له. ولكي تُترجم الخطة الأمريكية إلى واقع، يجب بناء قدرة الجيش على تولي الأمن في الجنوب والمناطق الحساسة. لكن ذلك يتطلب تمويلًا مستمرًا لسنوات وليس دفعات دعم ظرفية.
(*) التمويل والدعم الخارجي لحزب الله: حزب الله ليس مجرد ميليشيا؛ بل شبكة مالية واقتصادية وإغاثية واسعة، محلية وخارجية. ومحاولات الولايات المتحدة لخنق التمويل تواجه تحديًا بنيويًا لأن الحزب يتكيّف بسرعة، ويغيّر مساراته المالية، ويستفيد من مناطق غير خاضعة لرقابة مشددة. فإضعاف الحزب ماليًا يحتاج تعاونًا دوليًا طويل الأمد، لا تملكه واشنطن وحدها.
(*) العامل الإسرائيلي المرتبط بتبني موقف "الحرب المحتملة دائمًا": أي خطوة أمريكية في لبنان مرتبطة تلقائيًا بموقف إسرائيل. وإسرائيل ترى أن أي إعادة تموضع لحزب الله أو محاولة للضغط عليه قد تخلق فراغًا تكتيكيًا أو تحركًا عسكريًا مضادًا. وبالتالي تبقى مخاطر التصعيد قائمة دائمًا سواء تصعيد محدود أو حرب أوسع على الحدود الشمالية.
(*) دور إيران في لبنان: تمتلك إيران القدرة على تهدئة الساحة اللبنانية أو إشعالها. فالملف اللبناني بالنسبة لطهران جزء من شبكة مصالح تمتد عبر اليمن، سوريا، العراق، وفلسطين. وبالتالي أي تنازل في لبنان قد يُنظر إليه كتنازل على طاولة أكبر. وهو الأمر الذي يجعل تسليم سلاح حزب الله في المدى القريب مسألة مستبعدة.
السيناريوهات المتوقعة
يمكن تحديد عدة سيناريوهات لتنفيذ خطة ترامب تجاه لبنان في الوقت الراهن، فيما يلى:
(*) السيناريو الأول (التسوية التدريجية): يذهب هذا السيناريو إلى احتمال تطبيق مرحلي لخطة ترامب بما يضمن هدوءًا نسبيًا دون نزع كامل لسلاح حزب الله. ويتزامن مع ذلك اتخاذ إجراءات من شأنها تحقيق تحسن اقتصادي محدود، وعودة للاستثمارات الأجنبية والخليجية إلى لبنان. ويوفر هذا السيناريو الاحتمال الأكثر واقعية.
(*) السيناريو الثاني (حدوث اشتباكات محدودة بين لبنان واسرائيل): يقوم هذا السيناريو على احتمال وقوع تصعيد إسرائيلي – لبناني محدود بسبب خطأ تكتيكي أو تحرك ميداني غير محسوب. فمن شأن هذا التصعيد المحتمل أن يزيد الضغط على الحكومة اللبنانية ويُفشل تنفيذ الخطة الأمريكية.
(*) السيناريو الثالث (المزيد من الانقسام الداخلي وحدوث شلل سياسي في لبنان): يذهب هذا السيناريو إلى احتمال وقوع تعطل حكومي لبناني يمنع تنفيذ أي بند في الخطة، مع استمرار الانهيار الاقتصادي وتآكل الثقة الدولية. وبالتالي صعوبة أو فشل خطة ترامب.
(*) السيناريو الرابع (اتفاق إقليمي واسع): يقوم هذا السيناريو على احتمال لإبرام صفقة موسعة تشترك فيها إيران، تؤدي لخفض كبير في نشاط حزب الله مقابل امتيازات في ملفات إقليمية أخرى. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو هو الأفضل لكنه يظل الأقل احتمالًا بسبب التطورات الحالية وتضارب المواقف لدى الأطراف المختلفة الإقليمية والدولية المؤثرة في الأزمة اللبنانية الراهنة.
وفي النهاية، يمكن القول إن خطة ترامب لاستقرار لبنان تشكل فرصة لإنقاذ الدولة اللبنانية من أزمتها الحالية، لكنها في الوقت ذاته تواجه حائطًا صلبًا متعدد التحديات يأتي في مقدمتها: موقف حزب الله الرافض لهذه الخطة، والانقسام الداخلي الذي يزيد من ضعف الدولة، تشابكات النفوذ الإيراني، وحساسية إسرائيل الأمنية. لذلك يتطلب نجاح هذه الخطة، تنفيذها بشكل متدرج للغاية وليس دفعة واحدة، وإبرام صفقات داخلية تشمل ضمانات للطائفة الشيعية مقابل خطوات أمنية، ودعم اقتصادي طويل الأمد للبنان وليس مساعدات رمزية، وتوفير ضمانات إقليمية تشمل دول الخليج، مصر، وفرنسا، لأن الولايات المتحدة وحدها لن تستطيع تثبيت أي تفاهم، وإعادة هيكلة كاملة لدور الجيش لتحمله مسؤولية السيطرة على الجنوب. فبدون توفر هذه العناصر، ستبقى خطة ترامب أقرب إلى إعلان نوايا منها إلى استراتيجية قابلة للتنفيذ.
وقد تتجه الأمور في المستقبل القريب إلى تبنى بعض المقاربات بشأن تلك الخطة قوامها: لا "نزع كامل لسلاح حزب الله" لا "حرب شاملة"، بل مزيج من خطوات متدرجة نحو تهدئة طويلة الأمد. وهذا كله يتوقف على مدى قدرة واشنطن على توفير ضمانات مالية وسياسية، ومدى قدرة بيروت على إدارة توازناتها الداخلية بحذر شديد فضلًا عن مدى استعداد بعض القوى الإقليمية لتبنى مواقف داعمة لهذه المقاربات.