في إطار فعاليات أيام القاهرة لصناعة السينما، ضمن أنشطة النسخة 46 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كانت الفعالية الأبرز، اليوم الأحد، بعنوان "انعكاسات سينمائية: رحلة في عوالم نوري بيلجي جيلان" وقدّم خلالها المخرج والممثل التركي العالمي نوري بيلجي جيلان محاضرة ثرية كشف فيها عن أبرز محطات مسيرته الفنية، وملامح رؤيته الإبداعية، وعلاقته المتجددة بسحر الصورة السينمائية.
رحلة البدايات
بدأ "جيلان" حديثه بالعودة إلى سنوات المراهقة، موضحًا أنه كان في الـ15 من عمره شخصية تميل إلى العزلة، لكنه وجد في التصوير مساحة للتعبير عن مشاعره وعوالمه الداخلية، مضيفًا أنه حين بلغ الـ25 بدأ يتردد على دور السينما بشكل مكثف، وهناك تبلورت لديه للمرة الأولى فكرة أن يصبح صانعًا للأفلام.
ومنذ تلك اللحظة انطلق في تصوير ما حوله، مستكشفًا البيئة المحيطة به باعتبارها مادة مفتوحة للتجريب، ليبدأ سلسلة من المغامرات الفنية التي ساعدته على تشكيل لغته البصرية الخاصة.
وأوضح "جيلان" أنه اعتاد كتابة أعماله وإخراجها في الوقت نفسه، رغبة في تقديم قصص تعبر عن ذاته وتلامس أسئلته الداخلية، مضيفًا: "أنا دائمًا أحب مناقشة الأفكار الفلسفية في أفلامي، وأستخدم السينما للإجابة عن الأسئلة المعقدة التي تراودني، فصناعة الفيلم ليست مهمة سهلة، وعلى المخرج أن يبحث باستمرار عن أفكار حقيقية تستحق أن تروى".
قلق فني يرافق كل عمل
توقف "جيلان" عند الحالة الإبداعية التي يعيشها خلال صناعة كل فيلم، مؤكدًا أنه بعد كل عمل يشعر بنوع من اليأس، ولا يرغب في العودة لمشاهدته، مشيرًا إلى أنه يواجه ترددًا كبيرًا مع كل مشروع جديد، لدرجة يفكر معها أحيانًا في التراجع قبل البدء.
ولفت إلى أنه يخوض نقاشات مطولة مع زوجته قبل اتخاذ قرار تقديم أي فكرة، رغم أن النقاش المطول ليس من طبعه، إلا أنه يعتبره خطوة أساسية تعود عليه بفائدة كبيرة.
بين الممثل الهاوي والمحترف
وفي حديثه عن علاقته بالممثلين، أوضح "جيلان" أن الاختلاف بين الهواة والمحترفين لا يلغي القيمة الفنية لكل منهما، مضيفًا: "كلاهما مهم، فكل ممثل يقدم طاقة خاصة تنبع مما يشعر به في اللحظة ذاتها ومع ذلك، أصبحت اليوم أميل إلى التعامل مع الممثلين المحترفين، رغم أنني في بداياتي كنت أفضّل اكتشاف الهواة".
وأشار إلى صعوبة اختبارات الأداء، لافتًا إلى أنه لا يبحث عن شكل محدد، بل عن التفرد، موضحًا أنه يشاهد عددًا كبيرًا من الممثلين، وقد يلفت أحدهم انتباهه، لكن هذا لا يعني بالضرورة ملاءمته للشخصية التي يبحث عنها.
مكانة الأدب في تجربته
أكد "جيلان" قدرته على التحكم في تفاصيل العمل كافة، ولا سيما ما يتعلق بالتصوير، معتبرًا هذا الجانب عنصرًا أساسيًا في تكوين رؤيته الإخراجية، موضحًا أنه قد يعجب بأداء ممثل، لكنه لا يجده مناسبًا للفيلم، مشددًا على أن هذه الدقة جزء أساسي من صناعة سينما صادقة ومتقنة.
كما أشار إلى أهمية الأدب في مسيرته الفنية، قائلًا: "أحب الأدب كثيرًا، ومن الضروري أن يقرأ صانعو السينما الأدب، فدائمًا ما يتسلل شيء من تشيكوف إلى أعمالي، فقد ارتبطت بالأدب منذ طفولتي".
السوشيال ميديا.. بين الضرورة والتحفظ
واعتبر "جيلان" أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم عنصرًا مهمًا في الترويج للأعمال الفنية، حتى وإن كان ينتمي إلى مدرسة سينمائية تتسم بالإيقاع الهادئ والرؤية التأملية، مؤكدًا أنه رغم تحفظه تجاه طابع السرعة الذي تفرضه المنصات الرقمية، إلا أنه يعترف بأهميتها في الوصول إلى الجمهور.
يُعد نوري بيلجي جيلان واحدًا من أبرز صناع السينما المعاصرة، ويشتهر بأسلوبه الواقعي الهادئ وصوره الشعرية التي تبرز أدق التفاصيل الإنسانية بعمق فلسفي وحس بصري رفيع وقد نالت أفلامه أرفع الجوائز في مهرجان كان السينمائي، بينما تعرض أعماله الفوتوغرافية في معارض عالمية كبرى، وتتميز بالروح التأملية ذاتها التي تطبع أفلامه.