كشف تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" أن روسيا تحمي أسطولها من الغواصات النووية في القطب الشمالي بنظام مراقبة تحت الماء تم بناؤه باستخدام معدات عالية التقنية تم الحصول عليها من شركات أمريكية وأوروبية من خلال شبكة مشتريات سرية.
ومن خلال إخفاء دورها في المعاملات، تمكنت روسيا من الحصول على أنظمة سونار حساسة، ومسيّرات تحت الماء قادرة على العمل على أعماق تصل إلى 3000 متر، وهوائيات متطورة تحت السطح، وأسطولٍ من السفن التي تظاهرت بأنها سفن تجارية أو بحثية أثناء قيامها بمهام التثبيت للجيش الروسي، وفقًا لمسؤولين ووثائق.
وحسب التقرير، كانت كل هذه العناصر جزءًا لا يتجزأ من مشروعٍ سريٍّ متعددِ السنوات لإقامة شبكة مراقبة غير مرئية عبر بحر بارنتس ومياهٍ أخرى شديدةِ البرودة، حيث تعمل الغواصات الروسية التي تحمل صواريخ باليستية عابرةً للقارات في حالة نشوب صراعٍ نوويٍّ مع الولايات المتحدة.
وكُشف عن هذه المعلومات في إطار تحقيقٍ بعنوان "أسرار روسيا"، شاركت فيه الصحيفة الأمريكية وائتلافٌ من وكالات الأنباء الأوروبية.
ويعتمد نظام المراقبة الروسي، الذي يُطلق عليه اسم "هارموني"، على مجموعةٍ من أجهزة استشعار قاع البحر لاكتشاف الغواصات الأمريكية التي تدخل "المعاقل" البحرية الروسية، مما يُعطِّل محاولات الغرب لتتبع أو تدمير الغواصات الروسية الموجودة، ويضمن قدرة روسيا على شن ضربةٍ نوويةٍ حتى لو تم تعطيل صوامع الصواريخ البرية، وفقًا لخبراء بحريين.
وأشار التقرير إلى أن "فشل الحكومات والشركات الغربية في منع روسيا من الحصول على مثل هذه التكنولوجيا البحرية الحساسة، أدى إلى تقويض أمن الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي".
شركة واجهة
لعقودٍ، اعتُبر التفوق المُتصوَّر لأسطول الغواصات النووية الأمريكية ميزةً استراتيجيةً على روسيا. وفيما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه نشر غواصتين في مواقع تكتيكية في وقتٍ سابقٍ من هذا العام ردًّا على تهديداتٍ مُبطَّنة من موسكو، سعت روسيا إلى سدّ هذه الفجوة، مُعلنةً عن فئةٍ جديدةٍ من الغواصات الهجومية، ومُعزِّزةً الدفاعات حول قواعد الأسطول الشمالي.
وكشف التقرير عن دور شركة "موستريلو كوميرشال المحدودة"، التي يقع مقرها الرئيسي في قبرص، والتي تُعَدّ واجهةً للمجمّع الصناعي العسكري الروسي، حيث استحوذت على عشرات الملايين من الدولارات من مشتريات المعدات الحساسة. وتم الكشف عن دورها كواجهةٍ روسيةٍ متورطةٍ في "هارموني" أثناء محاكمةٍ في ألمانيا هذا العام لمواطنٍ روسيٍّ أُدين بتنسيق المشتريات للشركة القبرصية في انتهاكٍ لقوانين التجارة الألمانية.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين أن ألمانيا أُبلغت بعملية الشراء الروسية من قِبَل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) عام 2021. وبعد أن قامت السلطات الألمانية بمداهمة المواقع المرتبطة بالشبكة واعتقال المشتبه به الرئيسي العام الماضي، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوباتٍ على "موستريلو" وشركاتٍ أخرى مرتبطةٍ بالحكومة أو الجيش الروسي.
تتتبّع الوثائق التي تناولها التحقيق معاملات "موستريلو" التي امتدّت لأكثر من عقدٍ من الزمان، وشملت شركاتٍ في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج والسويد وإيطاليا ودولًا أخرى أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ونقل التقرير عن مدير جهاز الاستخبارات النرويجي، نائب الأدميرال نيلز ستينسونيس، أن روسيا عملت على إنشاء "شبكات مشترياتٍ معقّدةٍ مع شركاتٍ أوروبيةٍ شرعيةٍ كنقطة اتصال"، وهي ممارسة "تُخفي أجزاءً من سلسلة التوريد وتحجب المستخدم النهائي الروسي"، بينما قامت أجهزة الاستخبارات الأمريكية وحلفاؤها بمراقبة جهود روسيا لبناء "هارموني" على مدى العقد الماضي.
مناورات ومراوغة
تتبَّع المشاركون في التحقيق تحرّكات السفن التي استحوذت عليها شركة "موستريلو" ليجدوا أدلةً على حدود نظام المراقبة الروسي، الذي شكَّل حاجزًا نصف دائريٍّ يمتدّ من مورمانسك شرقًا إلى نوفايا زيمليا، ثم شمالًا إلى فرانز جوزيف لاند، وهي أرخبيل روسي في المحيط المتجمِّد الشمالي.
ويقع الأسطول الشمالي الروسي، بالإضافة إلى قواعده ومعاقله الرئيسة للغواصات، خلف هذا الحاجز، ما يجعل غواصةً غربيةً تعبر هذا الحاجز مُعرَّضةً لخطر الاكتشاف.
كما تُساعد أجهزة الاستشعار قادة الغواصات الروسية على تحديد ما إذا كانت سفنهم مُتتبَّعة، ومن ثمَّ القيام بمناوراتٍ مراوغة، وهو تكتيكٌ يُعرَف بين خبراء البحرية باسم "إزالة القمل".
وغالبًا ما كانت المكوّنات التي طلبتها شركة "موستريلو" تُسلَّم في البداية إلى عناوين في ألمانيا، وهو ترتيبٌ قلَّل من تدقيق المورّدين. لكن في إطار القضية، وصفت السلطات الألمانية الشركة بأنها واجهةٌ لشركة "أوبرافيليني بيرسبيكتيفنيه تيكنولوجي" (UPT) الروسية، حيث تُظهر الصفحات المؤرشفة من موقع الشركة الإلكتروني أنها تعاونت خلال العقدين الماضيين مع أجهزة الأمن والجيش الروسيَّين، مُدرِجةً جهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، وهو جهاز الاستخبارات الداخلية الروسي، وجهاز الاستخبارات الخارجية (SVR) ضمن عملائها.