تكتسب منطقة الإندوباسيفيك أهمية استراتيجية لدى القوى الكبرى المتنافسة على قمة النظام الدولي، لا سيما أن الصين تعتبرها مجالًا حيويًا لتحركاتها الخارجية في إطار مبادرة الحزام والطريق التي تسعى من خلالها لتعزيز مكانتها الاقتصادية، في حين تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في تلك المنطقة فرصة للحد من الصعود الصيني، وتوظيف التحالفات الرامية للاستفادة من الموارد الاقتصادية الضخمة التي تزخر بها تلك المنطقة، خاصة وأن الإندوباسيفيك تمتد جغرافيًا عبر المساحة الواصلة بين المحيطين الهندي والهادئ، التي تبدأ من إطلالة الأمريكيتين على المحيط الهادئ شرقًا، حتى حدود المحيط الهندي بالقرب من بحر العرب وسواحل شرق القارة الإفريقية غربًا، ومن الحدود البحرية للهند ودول جنوب وشرق آسيا شمالًا، حتى السواحل الأسترالية جنوبًا. والمنطقة بها نصف سكان العالم، حيث تضم أكبر دولتين في العالم من حيث عدد السكان الصين والهند، وتمتلك 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، إذ بها ثاني وثالث أكبر اقتصادات العالم الصين واليابان، وبها عدد من الممرات البحرية الحيوية مثل مضيق ملقا الذي يربط بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي.
مظاهر متعددة:
هناك العديد من مظاهر الاهتمام بتفاعلات منطقة الإندوباسيفيك من قِبل القوى الكبرى سواء على مستوى الفكر أو الممارسة، وهو ما يتجلى في المظاهر التالية:
أولها، الاهتمام الأمريكي: شكّلت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في ديسمبر 2017 خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، نقطة مفصلية للتوجه الأمريكي إزاء منطقة الإندوباسيفيك، التي كشفت عن بداية عهد جديد من التنافس الاستراتيجي وإعادة توجيه الولايات المتحدة الأمريكية نحو منطقة الإندوباسيفيك، كما شكّلت زيارة "نانسي بيلوسي" رئيس مجلس النواب الأمريكي السابقة لتايوان كأرفع مسؤول أمريكي يزور تايوان منذ 25عامًا، في أغسطس 2022 تكثيفًا للاهتمام الأمريكي بتلك المنطقة، كما أنها بعثت برسالة أمريكية مفادها أن واشنطن ترفض ضم تايوان التي تتمتع بحكم ذاتي إلى الصين برغم تبنيها، لدعم سياسة الصين الواحدة. وربما يعود ذلك لما تتمتع به تايوان من ثقل اقتصادي إذ يقدر ناتجها المحلي الإجمالي لعام 2022 بنحو 850 مليار دولار.
وثانيها، الاهتمام الأوروبي بمنطقة الإندوباسيفيك: تمثل الاهتمام الأوروبي بمنطقة الإندوباسيفيك منذ إعلان كل من ألمانيا وفرنسا وهولندا، في استراتيجيات رسمية إزاء منطقة الإندوباسيفيك، إذ قدّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته لأستراليا في مايو 2018 الخطوط الرئيسية لاستراتيجية فرنسا إزاء الإندوباسيفيك، التي تضمنتها ورقة لوزارة الخارجية بشكل تفصيلي. كما طرحت وزارة الخارجية الألمانية في أكتوبر 2020 ورقة حددت فيها رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة. وقد قادت الدول الثلاث تيارًا داخل الاتحاد الأوروبي للاهتمام بالمنطقة. وهو ما تحقق بالفعل بإصدار الاتحاد الأوروبي في أبريل 2021 وثيقة استراتيجية التعاون في الإندوباسيفيك، ثم إصدار المفوضية الأوروبية بالتعاون مع الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في سبتمبر 2021 وثيقة أخرى بعنوان استراتيجية الاتحاد الأوروبي، للتعاون مع الإندوباسيفيك. كما نادت بريطانيا باعتبار منطقة الإندوباسيفيك جزءًا من التوجه البريطاني لصعود عالمي بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي في إطار البريكست.
وثالثها، الاهتمام الصيني، يعتبر الصينيون طرح مسمى الإندوباسيفيك الذي تروّج له القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، مفهومًا مصطنعًا بديلًا لمفهوم آسيا الباسيفيك، الذي يهدف إلى استبعاد الصين ووضع حد لتطلعاتها الأمنية والاقتصادية في المنطقة، ومنح الصدارة للقوى غير الآسيوية مثل أستراليا، أو لدول من خارج المحيط الهادئ مثل الهند. لذلك تعتقد بعض التقديرات أن اتجاه واشنطن لإمداد أستراليا بتكنولوجيا الغواصات النووية في إطار تحالف أوكوس يهدف إلى استراتيجية شد الأطراف واستنزاف قدرات الصين، وهو الأمر الذي جعل المتحدث باسم الخارجية الصينية تشاو لي جيان يعلن أن التحالف يضر بالجهود الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية، ويدمر السلام والاستقرار الإقليمي في المنطقة، بما سيخل بالتوازن الاستراتيجي، ويطلق سباق تسلح نووي، داعيًا واشنطن وكانبيرا ولندن للتخلص من عقلية الحرب الباردة والتحيز الأيديولوجي.
دوافع الصراع:
تتنوع دوافع الصراع في منطقة الإندوباسيفيك، وهو ما يمكن إبراز أهم تلك الدوافع في التالي:
(*) الحد من الصعود الصيني: يعكس التوجه الأمريكي إزاء آسيا بشكل عام وإزاء منطقة الإندوباسيفيك تحديدًا سعيًا للحد من الصعود الصيني في ظل تعاظم القدرات الاقتصادية للصين التي ترشحها تقديرات الهيئات الاقتصادية، التي تمثل الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم مرشحة لأن تكون أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2035. لذلك تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أن سياسة الصين في تلك المنطقة تضر بمصالحها، وتقوّض تحالفاتها وشراكاتها في المنطقة، بما يوثر على مكانتها الدولية. في حين ترى الصين أن منطقة آسيا– الباسيفيك أو آسيا -الهادئ أرضًا واعدة للتعاون والتنمية وليست رقعة شطرنج للمنافسة الجيو سياسية.
(*) تعزيز الهيمنة الأمريكية: وفقًا لوزير الخارجية الصيني وانج يي في مارس 2022 فإن الهدف الحقيقي لاستراتيجية الإندوباسيفيك، هي إنشاء نسخة للناتو في تلك المنطقة، التي تسعى إلى الحفاظ على نظام الهيمنة الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وتقويض بنية التعاون التي تركز على الآسيان، معتبرًا تلك الإجراءات الضارة تتعارض مع الطموح المشترك للمنطقة في السلام والتنمية والتعاون وتحقيق نتائج مربحة للجميع، وتعزيزًا لتلك الهيمنة جعل الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" الإندوباسيفيك على قمة أولوياته من خلال طرح مبادرة، لإنشاء منطقة الإندوباسيفيك حرة ومفتوحة تقوم على احترام سيادة واستقلال جميع الدول في المنطقة، والحل السلمي للخلافات، وتجارة حرة وعادلة ومتبادلة قائمة على الاستثمارات المفتوحة، واتفاقيات النقل، والتواصل، وتدعيم القانون الدولي المتضمن حرية الملاحة. وقد تعزز هذا التوجه بتغيير اسم قيادة الباسيفيك أو المحيط الهادئ إلى القيادة الأمريكية للإندوباسيفيك عام 2018 ومركز قيادتها "هونو لولو" عاصمة جزر هاواي. وهي واحدة من بين 6 قيادات عسكرية أمريكية منتشرة عبر العالم، وسعيًا للحفاظ على الهيمنة الأمريكية في منطقة الإندوباسيفيك أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن مبادرة اقتصادية للتجارة الإقليمية خلال زيارته لليابان في 22 مايو 2022 عرفت بإطار العمل الاقتصادي لمنطقة الإندوباسيفيك من أجل الازدهار، الذي يضم 13 دولة هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، وبروناي، والهند وإندونيسيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، ونيوزيلندا، والفلبين وسنغافورة، وتايلاند وفيتنام.
(*) توظيف التحالفات الدولية: تشكل التحالفات الدولية إحدى وسائل واشنطن للحفاظ على مصالحها ودعم مصالح حلفائها في منطقة الإندوباسيفيك. لذلك أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2021 عن تحالف أوكوس ليتشكل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا، ويقوم التحالف على إمداد أستراليا بتكنولوجيا الغواصات النووية وتبادل المعلومات والتعاون في المجالات الأمنية والدفاعية والتكنولوجية والذكاء الاصطناعي، وقد اعتبرت بعض التقديرات أن تشكيل التحالف من واشنطن، لإعادة ترتيب هيكل القوة في منطقة الإندوباسيفيك، لا سيما أنه يعد بمثابة حوافز أمريكية لحلفاء واشنطن لمواجهة هيمنة الصين. كما قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بإعادة تفعيل تحالف كواد أو الحوار الأمني الرباعي الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية كل من الهند واليابان وأستراليا، حيث عقد قمة جمعت قادة الدول الثلاثة في طوكيو في مايو 2022 خلال جولته الآسيوية، لمواجهة التمدد الصيني والحد من صعوده. وتعزيزًا لدور تلك التحالفات، فإن كتاب "مايك بومبيو" وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الصادر في 24 يناير 2023 بعنوان "لا تنازل عن شبر في القتال لأجل أمريكا التي أحبها.. Never Give An Inch: Fighting for the America I Love"، أظهر أهمية الحليف الهندي الذي يعد نقطة ارتكاز في مواجهة الصين نظرًا لموقعه الاستراتيجي في جنوب شرق آسيا، معتبرًا أنه سيكون للكتلة المضادة للصين المكونة من الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وزن اقتصادي لا يقل عن ثلاثة أضعاف وزن الصين.
(*) تسليح حلفاء واشنطن: أضحى الاتجاه نحو عسكرة منطقة الإندوباسيفيك ملمحًا رئيسيًا لسياسات القوى الرامية إلى تعزيز تنافسها وحماية مصالحها الاستراتيجية، كان من أبرز تلك التوجهات السياسة الدفاعية اليابانية الجديدة، التي تضمنت تعزيز قدراتها العسكرية وزيادة حجم إنفاقها العسكري إلى 320 مليار دولار خلال الخمس سنوات المقبلة، التي بُررت لمواجهة التحدي الاستراتيجي الأكبر ممثلًا في الصين في اطار استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي التي أعلنتها رسميًا في 16 ديسمبر 2022.
مجمل القول إن مستقبل الصراع في الإندوباسيفيك سيتوقف على مدى قدرة القوى الكبرى على إدارة تناقضات مصالحها بما لا يخل بالأمن الإقليمي للمنطقة، لا سيما أن تلك القوى تمتلك قدرات الردع النووي، بما يشكل ضمانة للتوازن الاستراتيجي بين القوى المتنافسة على رقعة شطرنج الإندوباسيفيك، وما تزخر به تلك المنطقة من موارد اقتصادية تجعل من التعاون بديلًا مناسبًا للصراع الدولي.