من رحم الألم تولد الحكاية، ومن بين الركام ينهض الإبداع الفلسطيني شاهدًا على حياةٍ تُسرق كل يوم ولا تُمحى من الذاكرة. في غزة، حيث لا يكاد يمر يوم بلا فقدٍ جديد، تتحول الكاميرا إلى وسيلةٍ للبقاء، والفن إلى شهادةٍ على الوجود.
هناك، وسط الدمار والموت والخوف، يقف صنّاع الأفلام الوثائقية الفلسطينيون أمام مشاهد لا يمكن تخيّلها، لكنهم يختارون أن يوثّقوها لا أن يهربوا منها، ليثبتوا للعالم أن الفقد — مهما كان موجعًا — يمكن أن يصبح طريقًا نحو الإبداع والمقاومة.
قصصهم ليست مجرد أفلام، بل شهادات حيّة عن ثمنٍ باهظٍ دفعوه من أرواحهم وأجسادهم وعائلاتهم، في سبيل أن تبقى فلسطين حاضرةً في الوعي الإنساني، بالصورة والذاكرة والصوت.
في الوقت الذي يوثّق فيه صُنّاع السينما الواقعَ المؤلم، يكون للصُنّاع أنفسهم حكاياتٌ أشدُّ ألمًا مع الفقد خلال رحلة صناعة أفلامهم، إذ يتقاسمون الوجع من جرحٍ يندمل ولا تهدأ جراحه، ولكنهم لا يتوقفون، بل يضربون أعظم مثالٍ في الصبر والجلد، ليكونوا هم أنفسهم الحكاية التي تستحق أن تُروى.
موقع "القاهرة الإخبارية" حرص على توثيق حكايات عددٍ من صُنّاع سلسلة المسافة صفر، من خلال سرد حكاياتٍ إنسانيةٍ ذاقوا فيها مرارة الفقد.
اعتماد وشّح: فقدت 13 شخصًا من عائلتي واستوديو أحلامي
هنا، من داخل خيمةٍ للنازحين، تصنع فيلمها، وباليد الأخرى تربّت على قلبها ليهدأ، إذ تسرد المخرجة الفلسطينية اعتماد وشّح بمرارةٍ الخسارات التي عاشتها خلال الحرب على قطاع غزة، التي طالت حياتها الشخصية والعملية معًا، لتصفها بأنها تجربة إنسانية قاسية سلبتها كل ما تملك — من الأهل والبيت والعمل وحتى الأمان.
تقول اعتماد بأسى: "خلال الحرب على قطاع غزة وأثناء العمل على أفلامي، فقدت ثلاثة عشر شخصًا من عائلتي، من بينهم أخي.
لكن الفقد لم يقف عند حدود العائلة، بل امتد إلى حلمها الكبير، الذي تدمّر بصواريخ الاحتلال الإسرائيلي ليتحوّل إلى كوم تراب، فتقول عن ذلك: "كان عندي استوديو تصوير خاص بيّ، كنت بصوّر فيه المناسبات والأفراح والفيديو كليبات وأعمال فنية مختلفة، لكن في الحرب فقدت الاستوديو بالكامل. كان حلمًا كبيرًا ومصدر رزقي، وفقدانه ضربة قاسية جدًا".
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن فقدان شقيقها كان له بالغ الأثر عليها، إذ تصف اعتماد أثر هذه التجربة على حالتها النفسية قائلة: "ربما أكتر ما أوجعني هو استشهاد شقيقي، لأنه كان سندي ويساعدني في حياتي وعملي، وكان قريبًا مني جدًا. مررت بفترات صعبة وقاسية جدًا على نفسي بعد أن فقدته".
وتابعت:"خلال عملي على فيلمي الأول "تاكسي ونيسة"، لم أستطع تجاوز ما حدث: "كنت لا أزال متأثرة بما حدث، ولم أستطع إكمال فيلمي الوثائقي تاكسي ونيسة، إذ شعرت أنني أريد الابتعاد عن كل الناس والدخول في عزلة، ولكن الفيلم كان بالنسبة لي مساحة أسرد فيها حكاية عن تجربتي، وعن الفقد الذي عشته، وعن شقيقي وأولاده الذين فقدتهم في الحرب".
وتصف ما حلّ بغزة بعبارات تختصر حجم المأساة: "في الحرب فقدنا كل شيء: بيوتنا، شوارعنا، حياتنا، أماننا، غزة تدمرت بالكامل. البيت بالنسبة لأي إنسان وطن، عندما تفقد بيتك ومدرستك وجامعتك وكل الأماكن التي تحبها، تشعر أنك فقدت روحك نفسها."
وتضيف: "البيت عندما يسقط عليه صاروخ إسرائيلي يتحول إلى ركام، ولا يكون له أي أثر، كل الذكريات تختفي في لحظة، وهذا الإحساس الأصعب الذي يمكن أن يمرّ به أي إنسان."
تعيش اعتماد اليوم كنازحة بعد أن اضطرت للتنقل أكثر من أربع مرات بحثًا عن الأمان: "للأسف، لا يوجد أمان في غزة، أينما نذهب يكون الخطر، والموت ممكن أن يأتي في أي لحظة."
وتتحدث عن واقع المخرجين داخل القطاع: "نعاني جدًا، نعمل في ظروف بالغة القسوة بدون آلات تصوير، وأي شخص يحمل كاميرا يتعرض للقصف، الخوف دائم حتى على الصحفيين في الميدان، الصاروخ يضرب المكان في أي لحظة."
تختم اعتماد وشّح حديثها قائلة:"الحرب أخدت منا كل شيء: الأهل والبيت والأمان، لكن رغم الألم ما زلنا نحاول ونوثّق قصص غزة ونحكي للعالم عن وجعنا، لكي يعرفوا أننا كنا هنا، وأنه كانت هناك حياة على هذه الأرض قبل أن تتحول إلى ركام".
محمد الشريف: قصف منزلنا ونحن بداخله
أما المخرج الفلسطيني محمد الشريف، فكانت حياته معرضة للخطر شأنه شأن أي فلسطيني يعيش في غزة، وبداياته السينمائية وليدة الخسارة، إذ يحكي قائلاً: "قبل خوض تجربتي الأولى، فقدت صديقًا مقرّبًا وخالي، وكذلك فقدت والد زوجتي وشقيقها الأكبر إثر قصفٍ استهدف منزل العائلة. نقلت زوجتي وبنات العائلة إلى رفح، وعشنا في خيام وسط ظروف إنسانية صعبة جدًا."
ويتابع: "كنت في حالة صدمة، غير قادر على التفكير في شيء سوى النجاة بمن تبقى، كنا نحاول فقط أن نعيش يومًا بيوم".
وعندما تواصل معه المخرج رشيد مشهراوي للحديث عن فكرة فيلمه الأول "خارج التغطية"، لم يكن مستعدًا نفسيًا، لكنه قرر لاحقًا أن يخوض التجربة: "قلت لنفسي، إذا ما وثقنا بأنفسنا، فمين سيوثق؟ لابد أن نحكي قصتنا ونواجه الواقع بما عانينا".
خلال عمله على فيلمه الثاني "حسن"، ازدادت الخسائر، حيث يقول: "فقدت خالتي وولديها، واثنين من أبناء خالي، الفقد أصبح حدثًا يوميًا، القصف كان مستمرًا ليلًا ونهارًا. في مرة قصفت طائرة أباتشي البيت ونحن بداخله، أُصيب أولاد شقيقي، وكنا نزحف لكي نحمي الأطفال".
وبعد قصف المنزل مرتين، اضطروا للعيش في خيمة ثلاثة أشهر، قبل أن يعودوا رغم الخطر، قائلاً: "الحياة في الخيمة كانت قاسية لا يمكن وصفها، لكن حتى بعد العودة، الخوف لم يذهب عنا، تعيش وأنت تدرك أن بيتك معرض للقصف في أي لحظة".
كما تلقى خبر استشهاد أحد أصدقائه المقربين مع زوجته وابنته، وهو ما ترك جرحًا لا يندمل، لكنه منحه دافعًا أقوى لمواصلة التوثيق.
ويختم قائلاً: "ما عشناه لا يمكن وصفه بالكلمات، لكن الصورة يمكن أن تحكي ما نعجز نحن عن قوله".
نضال دامو: ذهب نجلي لجلب الطحين فجاء شهيدًا
قصة المخرج الفلسطيني نضال دامو تحمل وجعًا مضاعفًا، فقد خسر فلذة كبده أثناء تصوير فيلمه الوثائقي "حكايات غير مكتملة"، الذي صوّره في قلب غزة، لتتحول جنازة ابنه إلى مشهد حقيقي داخل الفيلم.
يقول دامو: "أثناء عملي على الفيلم تلقيت خبر استشهاد ابني محمود. كنت حذرته من الذهاب لجلب المساعدات، لأن قوات الاحتلال تستهدف أي شخص يقترب منها، لكنه كان متألمًا لرؤية عائلته جائعة، فقرر أن يذهب لجلب الطحين من أجل سد جوع أشقائه. ورغم تحذيري له، ذهب واستُهدف أثناء توجهه، ليكون هو الآخر جزءًا من حكاية لم تكتمل".
الفيلم، الذي لا تتجاوز مدته 20 دقيقة، يضم مشهدًا لن يمحوه الزمن من ذاكرة نضال، ألا وهو مشهد جنازة نجله محمود، ليصبح وثيقة إنسانية مؤلمة تخلّد وجع الأب الذي خسر ابنه أثناء عمله على توثيق معاناة الآخرين.
أوس البنا فقد ساقه ليمنح الآخرين الأمل
في المقابل، يمثّل المخرج الفلسطيني أوس البنا صورةً أخرى من المقاومة، فقد أصيب أثناء عمله على فيلمه "الأمنية"، ما أدى إلى فقدان جزء من ساقه، لكنه واصل طريقه مؤمنًا أن الأمل يمكن أن ينتصر على الألم.
يروي البنا: "واجهت صعوبات كبيرة أثناء التصوير، الطريق بين المخيم وبيتي كان مليئًا بالمخاطر. كنت أمشي بين أراضٍ قد تُقصف في أي لحظة، وأردد الشهادتين كل يوم. في كل مرة أخرج كنت أودّع أهلي".
ويضيف: "الخوف كان حاضرًا طوال الوقت، لكن سعادتي بأني أقدم دعمًا حقيقيًا للأطفال كانت أقوى".
ورغم فقده لجزء من جسده، لم يفقد شغفه ولا قدرته على العطاء، قائلاً:"الجرح لن يوقف الحياة. فقدت توازني أثناء السير، لكن ما فقدت إيماني ولا قدرتي على إعطاء الأمل. أستخدم المسرح واللعب كوسيلة لأفتح نافذة فرح في قلوب الأطفال، وهم يساعدونني على استعادة نفسي".
يتحدث عن التحديات اليومية قائلاً:"أصعب شيء أن تعيش وجسمك موجوع وروحك محمّلة بذكريات الفقد. فقدت بيتي وأحبائي وراحتي، لكن الاحتلال لم يأخذ مني الإرادة. الصعوبة ليست بالحركة فحسب، بل بالاستمرار وسط انقطاع الكهرباء ونقص المعدات والخوف من فقد جديد".
ويرى أن السينما سلاح ضد النسيان: "أحيانًا الكاميرا مجرد هاتف، والموقع هو الركام، والممثلون هم الناجون. الصعوبات ليست حواجز، بل بالعكس تجعلني أصر أكثر على إيصال الحكاية للعالم".
ويختم البنا قائلاً: "رغم فقدي لساقي وبيتي ومخيّمي، ما فقدت إيماني بالإنسان. سأظل أبحث عن وسيلة تجعل الأطفال يبتسمون، لأن ابتسامتهم هي أكبر نصر على الاحتلال".
في هذه الحكايات، يصبح الفقد فعلًا وجوديًا ومصدرًا للطاقة الخلّاقة، فكل مخرج منهم دفع ثمنًا باهظًا — من عائلته، أو جسده، أو بيته — لكنه لم يفقد إيمانه بدور الفن في حفظ الذاكرة وتوثيق الحقيقة، بعد أن تحولت الكاميرا في غزة إلى شاهدٍ على الحياة والموت معًا، إلى وسيلة للنجاة، وإلى صوتٍ لا يصمت في وجه محاولات المحو والنسيان.