الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

تغيير قواعد اللعبة في طوكيو.. فراغ القيادة يهز اليابان ويهدد مستقبل آسيا

  • مشاركة :
post-title
فراغ القيادة يهز اليابان ويهدد مستقبل آسيا

القاهرة الإخبارية - عبدالله علي عسكر

لطالما مثّل النظام السياسي الياباني نموذجًا للاستقرار وسط عالم مضطرب، لكن اليوم يخيّم قلق عميق على المشهد الداخلي والخارجي، فلم تعد اليابان، تلك القوة الهادئة التي ساهمت لعقود في ضبط توازن النظام الدولي، بمنأى عن رياح التغيير العاصف.

فبين انقسامات سياسية متفاقمة، وفضائح مالية تقوّض الثقة، وصعود تيارات يمينية شعبوية تتغذى على مشاعر معاداة العولمة، وجدت طوكيو نفسها أمام فراغ قيادي يهدد مكانتها الدولية، وحسب مجلة "فورِن أَفيرز" الأمريكية فإن ضعف المركز السياسي في اليابان قد تكون له انعكاسات واسعة على آسيا والعالم بأسره.

اليابان كقوة للاستقرار

على مدى العقد الماضي، ومع تفشي النزعات القومية والحمائية واللاليبرالية في العديد من دول العالم، برزت اليابان كداعم رئيسي للنظام الدولي القائم على القواعد، فقد عززت طوكيو شراكاتها الاقتصادية مع قوى إقليمية مثل أستراليا والهند والفلبين، وعمّقت تعاونها الأمني معها، بينما اتبعت سياسة "التخفيف من المخاطر" تجاه الصين مع الاستمرار في دعم التجارة العالمية.

وقد استند هذا الدور إلى الاستقرار الداخلي والقيادة القوية، خاصة خلال حقبة رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي (2012-2020)، الذي قاد اليابان بثبات في مرحلة دقيقة من التحولات العالمية.

تراجع المؤسسة السياسية

غير أن هذا الثبات لم يعد قائمًا، فقد مني الحزب الليبرالي الديمقراطي الذي حكم اليابان معظم العقود السبعة الماضية بخسائر كبيرة في الانتخابات الأخيرة لمجلس النواب (خريف العام الماضي) ومجلس الشيوخ (صيف هذا العام)، كما تراجع نفوذ شريكه في الائتلاف الحاكم، حزب كوميتو، للمرة الأولى، بات الائتلاف الحاكم يملك مقاعد أقلية في المجلسين.

في المقابل، حقق حزب سانسيتو اليميني الشعبوي قفزة كبيرة بحصوله على 14 مقعدًا في مجلس الشيوخ، بعدما كان لا يملك سوى مقعد واحد عام 2022، مستندًا إلى خطاب مناهض للأجانب ومشكك بالعولمة.

توضح "فورِن أَفيرز" أن السبب الجوهري وراء هذا التراجع يعود إلى غياب قيادة قوية، فالحزب الليبرالي الديمقراطي يواجه انقسامات داخلية عميقة وتراجعًا في الشعبية، بينما لم تستطع المعارضة تشكيل بديل فعّال.

هذا النقص في القيادة يصعب على اليابان التعامل مع التحولات الجيوسياسية، خصوصًا في ظل السياسات الاقتصادية الأمريكية المتقلبة في عهد الرئيس دونالد ترامب.

فضائح الفساد

تعرض الحزب الليبرالي الديمقراطي لضربة قوية عام 2023 حين كشف أن بعض فصائله السياسية لم تفصح عن إيرادات جمع التبرعات، بل أعادت الأموال إلى صناديق سرية غير خاضعة للرقابة، ورغم تبني الحزب إجراءات لتعزيز الشفافية، إلا أنه فقد ركيزة أساسية كانت تنظم صراعاته الداخلية، ما عمّق الانقسام وأضعف الثقة العامة.

لم يسلم حزب كوميتو من التراجع أيضًا، إذ فقد نحو مليون صوت في انتخابات مجلس الشيوخ مقارنة بعام 2022، هذا التراجع ارتبط بتقلص عضوية منظمة سوكا غاكاي الدينية التي يعتمد عليها الحزب، إضافة إلى وفاة زعيمه الكاريزمي وتراجع اهتمام الشباب بالحياة السياسية، وفق الباحث ليفي ماكلولين.

تغيير قواعد اللعبة

بعد سنوات من الانكماش، ارتفعت تكلفة المعيشة بشكل حاد مع وصول التضخم إلى 3.7% وتراجع قيمة الين، فالناخبون حملوا الحزب الليبرالي الديمقراطي المسؤولية، خصوصًا بعد سياسات مثيرة للجدل مثل مبادرة خفض أسعار الأرز التي أضرت بالمزارعين، وتوزيع دفعات نقدية مؤقتة اعتُبرت بعيدة عن الواقع مقارنة بارتفاع الأسعار.

تشير "فورِن أَفيرز" إلى أن الأحزاب الناشئة وظفت وسائل التواصل الاجتماعي بكفاءة غير مسبوقة، فقد أظهر استطلاع لوكالة جيجي برس أن 47% من الناخبين استخدموا المنصات الرقمية لتحديد أصواتهم في انتخابات 2025، وكان حزب سانسيتو في طليعة هذه القوى، مستفيدًا من حضوره على يوتيوب ورسائله التي تستهدف الناقمين على المؤسسة التقليدية.

انقسام سياسي

تؤكد "فورِن أَفيرز" أن التحدي الأكبر ليس الشعبوية فحسب، بل تفتت السلطة داخل الحزب الليبرالي الديمقراطي، إذ يواجه رئيس الوزراء إيشيبا شيغيرو دعوات للاستقالة بعد خسائر انتخابية متتالية، فيما يعجز الحزب عن الاتفاق على استراتيجية موحدة لإعادة البناء.

ومع فقدان الأغلبية في البرلمان، بات الائتلاف الحاكم عرضة لحجب الثقة، ويضطر للاعتماد على أحزاب أخرى لتمرير التشريعات، بينما المعارضة عاجزة عن تشكيل بديل متماسك.

تعكس الأزمة الداخلية آثارها على السياسة الخارجية، ففي يوليو، وقعت اليابان اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة فرضت رسومًا بنسبة 15% على سلع يابانية، وألزمت طوكيو بشراء الغاز والمنتجات الزراعية الأمريكية واستثمار 550 مليار دولار في مشاريع بالولايات المتحدة.

لكن الاتفاقية أثارت جدلاً، إذ أشارت طوكيو إلى أن معظم التمويل سيكون عبر قروض وضمانات، بينما أعلن البيت الأبيض أن واشنطن ستحتفظ بـ90% من الأرباح، كما أن الإعفاء الموعود من رسوم السيارات لم يُؤكَّد رسميًا، ما كشف ضعف موقف اليابان التفاوضي في ظل فراغ القيادة.

طوكيو بلا بوصلة

تحذر "فورِن أَفيرز" من أن غياب قيادة قوية قد يشل قدرة اليابان على مواجهة أزماتها الداخلية والخارجية، اقتصاديًا، قد تفشل في جذب العمالة والكفاءات ومعالجة التضخم، وسياسيًا، سيصعب عليها التصدي للنفوذ الصيني أو الإبقاء على دورها الداعم للنظام الدولي الحر.

وترى المجلة أن الحل يكمن في إصلاح سياسي شامل يعيد ثقة الناخبين، ويواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية، ويقي اليابان من الانجراف وراء الشعبوية اليمينية.