على الرغم من تقاطعات الحرب والمشهد السياسي المضطرب، فإن حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل لا تزال تواجه أنواء الانقسام رغم عدم انسجام تركيبتها حول العديد من القضايا. وتلقي الدعوة التي وجهها زعيم حزب أزرق-أبيض والوزير السابق في حكومة الحرب بيني جانتس لانضمام أقطاب المعارضة في حكومة مؤقتة بقيادة نتنياهو، الضوء على مدى تماسك حكومة اليمين في مواجهة تداعيات الحرب التي امتدت لتجنيد الحريديم وقدرة نتنياهو على إدارة الخلافات بين أعضاء الائتلاف خلال العطلة الصيفية للكنيست بالتوازي مع تحييد ملف الأسرى رغم الغضب المتصاعد في أوساط الشارع الإسرائيلي.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي فرص توسيع الحكومة وتأثيرها على الانتخابات المقبلة في ضوء تحركات المعارضة لإعادة تشكيل المشهد السياسي الإسرائيلي.
مؤشرات التحول
على الرغم مما واجهته دعوة زعيم حزب أزرق-أبيض بيني جانتس الانضمام لحكومة بنيامين نتنياهو من رفض واسع لأحزاب المعارضة الإسرائيلية فإنها أحيت حراكًا سياسيًا في أوساط المعارضة استغلالًا لتطورات مفصلية قد تؤثر في شكل الدولة، وهو ما يمكن الإشارة إليه على النحو التالي:
(*) ورقة المحتجزين: يمثل المحتجزون ورقة رابحة لمعارضي حكومة نتنياهو من أجل خلق إجماع وطني يمكن البناء عليها داخل التيارات الصهيونية، وهو ما يساهم في معالجة افتقار المعارضة لقيادة كاريزمية تجابه نتنياهو على المدى المنظور. ويظل حراك الشارع المؤيد للمحتجزين أكثر حضورًا من وجود برنامج سياسي واقعي للمعارضة التي شهدت انشقاقات واسعة أبرزها انهيار تحالف معسكر الدولة وخروج حزب هناك أمل بقيادة وزير الخارجية الحالي جدعون ساعر من أجل الانضمام للحكومة عقب انسحاب بيني جانتس من حكومة الحرب في يونيو 2024. كما فشلت على الجانب الآخر محاولة زعيم المعارضة يائير لابيد في إقناع الإدارة الأمريكية بخطته لليوم التالي للحرب في غزة.
وجاءت دعوة بيني جانتس على وقع استمرار حكومة نتنياهو في السير قدمًا بمخططاتها في غزة وعدم نجاعة الخيار الاحتجاجي في تغيير ذلك الواقع؛ ففي استطلاع جديد للقناة 12 نشرته جريدة "جيروزاليم بوست" في 29 أغسطس 2025 أظهر أن 45%من الإسرائيليين ونحو 80% من جمهور الائتلاف الحاكم يعتقدون أن المظاهرات في أنحاء البلاد تضر بأي محاولات لتحرير المحتجزين وأن 49% من الجمهور يعتقدون أن الحكومة لا تبالي بحياة المحتجزين.
وفي السياق ذاته لقيت دعوة بيني جانتس للانضمام إلى الحكومة مع أطياف المعارضة استهجانًا من مختلف التيارات، فمن ناحية لا يمتلك وزير الدفاع الأسبق رؤية سياسية مختلفة عن نتنياهو ولم يعد يمتلك أوراق ضغط كافية تمكنه من فرض شروطه على حكومة اليمين المتطرف باختصار أهداف الحرب في استعادة المحتجزين وإجراء انتخابات مبكرة، كما أن دعوات يائير لابيد في السابق بالتوجه لصفقة إطلاق المحتجزين مقابل شبكة أمان في الكنيست تمنع انهيار حكومته؛ فشلت في إضعاف موقف نتنياهو في الشارع الإسرائيلي وتعزيز نقمة الرأي العام على حكومة اليمين المتطرف وخاصة تحالف الصهيونية الدينية.
(*) اتساع العزلة الدبلوماسية: اتخذت قوى كبرى متحالفة تقليديًا مع إسرائيل، مواقف صاخبة من الانتقادات لحكومة نتنياهو وصولًا إلى التوجه للاعتراف بدولة فلسطين وقطع إمدادات الأسلحة وبعض أشكال التعاون الاقتصادي والعسكري مع تل أبيب.
وطالت الانتقادات قلب المعسكر الأوروبي الداعم لإسرائيل في ظل اعتراف كل من إسبانيا والنرويج وأيرلندا وسلوفينيا بالدولة الفلسطينية واعتزام فرنسا اتخاذ الخطوة نفسها على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 إلى جانب تلويح بريطانيا باتباع النهج ذاته ما لم تنه إسرائيل سياسة تجويع الفلسطينيين في قطاع غزة، وإلى جانب تلك العواصم أثارت حرب الإبادة الإسرائيلية حفيظة العديد من الدول الأوروبية وعززت الانقسامات داخل التحالفات الحاكمة في هولندا والنمسا، إذ لم يعد دعم أمن إسرائيل أمرًا مسلمًا به دون الخوض في مقتضيات تحقيق أمن إسرائيل وفق مقررات الشرعية الدولية وباتساق إجراءاتها مع القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي بعدما انشغلت تلك الدول في بداية الصراع بدعم حكومة نتنياهو في تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة تحت غطاء إنساني.
(*) التعديلات السياسية والقضائية: يسود القلق في أوساط المعارضة الإسرائيلية من اختطاف اليمين المتطرف للدولة من أجل خدمة مصالحه السياسية والاستيطانية عبر فرض التعديلات القضائية بالتوازي مع ما توفره الحرب من فرصة سانحة لإقالة المستشارة القضائية للحكومة وتعزيز قبضة اليمين المتطرف على مقاليد السلطة في البلاد، مما يقوض أسس الحكم الديمقراطي ويعزز التباعد بين إسرائيل وحلفائها الغربيين.
وفي خضم تلك المخاوف برزت توجهات جديدة في المعارضة الصهيونية الإسرائيلية من أجل الإعداد لمرحلة ما بعد نتنياهو وبهدف الحفاظ على موقع إسرائيل في فلك الديمقراطيات الغربية. ويقود زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" لليهود الروس أفيجدور ليبرمان حراكًا يضم رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت ورئيس أركان جيش الاحتلال الأسبق جادي أيزنكوت ويسعى لضم يائير لابيد بالدعوة لوضع "مبادئ توجيهية للحكومة المقبلة" حول القضايا المركزية على الأجندة الوطنية في ملفات وضع دستور للبلاد وفصل الدين عن الدولة والخدمة العسكرية الإلزامية للجميع في الدولة إلى جانب قضايا الأمن والاقتصاد.
إرهاصات التحول
على الجانب الآخر أضرت الدعوة بالانضمام للحكومة بشعبية بيني جانتس وحزب أزرق-أبيض في استطلاعات الرأي العام بعدما تعرضت تحالفاته لضربات موجعة عقب انسحاب جدعون ساعر وانضمام حزبه لحكومة نتنياهو وانسحاب جادي أيزنكوت مؤخرًا؛ ففي استطلاعين منفصلين لصالح معاريف والقناة 12 لم ينجح حزب أزرق-أبيض في تخطي العتبة الانتخابية للتمثيل بالكنيست، بينما حافظ حزب الليكود على 24 مقعدًا في الاستطلاعين المذكورين وجاء حزب نفتالي بينيت في المرتبة الثانية رغم تفاوت طفيف في حظوظه بواقع 21 مقعدًا في استطلاع معاريف (معهد لازار) مقابل 20 مقعدًا في استطلاع القناة 12، وحقق حزب إسرائيل بيتنا 10 مقاعد رغم تباين موقعه في كلا الاستطلاعين.
وفي خضم التحولات التي باتت تنضج على الساحة السياسية من ميادين الاحتجاج إلى الاستعداد المبكر لما يسمى بـ"المعارضة الصهيونية" من اليمين واليسار لانتخابات الكنيست المقبلة المفترض إجرائها في أكتوبر 2026، ما لم تواجه الحكومة انهيارًا داخليًا جراء الخلافات حول تحمل تداعيات الحرب اجتماعيًا بين شركاء الائتلاف بصورة عادلة، حيث بلغت حظوظ الائتلاف الحاكم بصيغته الحالية 50 مقعدًا بينما قد تحقق المعارضة الصهيونية في الانتخابات المقبلة نحو 60 مقعدًا وفق استطلاع القناة 12، وذلك دون انضمام الأحزاب العربية.
وإجمالًا؛ على الرغم من دعوة بيني جانتس لتوسيع الائتلاف الحاكم لتقليل تأثير الصهيونية الدينية على ملف المفاوضات بشأن الإفراج عن المحتجزين، فإن ظروف تحول الصراع السياسي باتت أكثر وضوحًا مع تغليب البُعد الأيديولوجي على الصراع السياسي الداخلي والتراجع النسبي لملف المحتجزين كوسيلة لاستقطاب الحركة الاحتجاجية التي قد تسفر عن انقسامات حادة في الشارع الإسرائيلي وصدامات بين مناصري المحتجزين وجمهور المعارضة من جهة ومؤيدي الائتلاف الحاكم من جهة أخرى. ويظل الصراع على شكل ومستقبل الدولة هو المحدد الرئيسي للسياسة الإسرائيلية داخليًا وعلى الصعيد الخارجي في حال نجحت المعارضة بوضع خارطة طريق جديدة لـ"أنسنة المشروع الصهيوني"، لكنها في المقابل تمثل انتكاسة لمشاركة المكون العربي في السياسة الإسرائيلية استنادًا لتجربة حكومة بينيت-لابيد غير المتجانسة التي ضمت 8 أحزاب من ضمنها "القائمة العربية الموحدة".