لم تشعل عملية "طوفان الأقصى" مشروعات إسرائيل بتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية المحتلة فحسب، بل فتحت القيادة اليمينية المتطرفة في تل أبيب النار على الوجود الفلسطيني داخل الخط الأخضر بتأجيج مشاعر الكراهية ضد العرب وتسليح اليهود في المدن المختلطة والمحيطة كذلك بالقرى والبلدات العربية، إلى جانب أنشطة هدم وتدمير المنازل في صحراء النقب.
ومع استمرار الحرب ودخولها شهرها العاشر، وصف وزير المالية وزعيم الصهيونية الدينية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، 2 يوليو 2024، عرب الداخل بأنهم تهديد وجودي لدولة إسرائيل ويحملون أسلحة وذخائر كانوا قد اقتنوها بطرق غير شرعية من قواعد جيش الاحتلال الإسرائيلي وقد يخدمون على حد تعبيره "خطة الاحتلال الإيراني"، منتقدًا في الوقت نفسه تسليح وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير، المتطرفين القوميين بالداخل في إسرائيل.
وكانت مواجهات 2021، أبرز مؤشرات ارتباط المجتمع العربي في إسرائيل بمستجدات التصعيد في الضفة الغربية والمسجد الأقصى، إلا أن الأزمة الراهنة في قطاع غزة لم تعكس ذات القدر من الزخم لصوت الشارع العربي في الداخل لما يجري بقطاع غزة، ارتباطًا بالعديد من المتغيرات السياسية والاجتماعية.
ظروف معيشية واجتماعية معقدة
ارتفعت أسهم المجتمع العربي في الداخل الإسرائيلي مع انطلاق عملية "سيف القدس"، مايو 2021، التي أسفرت عن مواجهات كبرى في المدن المختلطة التي يقطنها 10% من إجمالي عرب الداخل إلى جانب اليهود ومنها اللد وحيفا وعكا والرملة ويافا (تل أبيب)، التي تبعها أول محاولة انخراط فعلية في قلب العملية السياسية بإسرائيل مع تشكيل حكومة بينيت-لابيد، يونيو 2021، من ثمانية أحزاب من مختلف الطيف السياسي، منها مشاركة القائمة العربية الموحدة الممثلة لـ"الحركة الإسلامية الجنوبية" بزعامة منصور عباس، قبل أن تتسبب انتهاكات المستوطنين وجيش الاحتلال في حي الشيخ جراح والحرم القدسي واغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة في تفكك الحكومة وكان آخرها استقالة النائبة عن حزب ميرتس من مدينة الناصرة غيداء ريناوي زعبي.
(*) التركيبة الديمغرافية: يمثل العرب إجمالًا نحو 21.1% من تعداد السكان في إسرائيل بنحو 2.089 مليون نسمة من إجمالي 9.9 مليون نسمة، بينما يمثل اليهود 7.247 مليون نسمة بنسبة 73.2%، بينما تمثل الأقليات ومنهم المسيحيون غير العرب 564 ألف نسمة بنسبة 5.7%، حسبما ذكرت تايمز أوف إسرائيل، نقلًا عن بيانات مركز الإحصاء المركزي الإسرائيلي المحدثة، 9 مايو 2024، بينما يقدر الجهاز المركزي للإحصاء في فلسطين أن عدد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر نحو 1.8 مليون نسمة، ويعود الفارق في التقديرات إلى شمول الإحصاء الإسرائيلي للقدس الشرقية المحتلة، يونيو 1967، ويختلف وضعها عن الأراضي الواقعة خلف الخط الأخضر أو خط الهدنة لعام 1949.
ويعيش العرب في 8 تجمعات بمناطق الجليل الأعلى والأسفل شمالًا، إلى جانب وجودهم بصحراء النقب جنوبًا، وتنقسم تلك التركيبة إلى مسلمين بنسبة 85% من المجتمع العربي، ونحو 18% من إجمالي السكان، بينما يمثل المسيحيون العرب نحو 1.9% يليهم الدروز بنسبة 1.6% من الإجمالي.
وبحسب بيانات معهد ديمقرطية إسرائيل لعام 2021، يمثل عدد العرب في المدن المختلطة الخمس نحو 132 نسمة، وسجلت تلك الكتلة أعلى معدل لها في عكا بنسبة 32% من إجمالي سكان المدينة، يليها اللد بنحو 30.6%، ثم الرملة وحيفا، بينما سجلت يافا أدنى نسبة بلغت 4.5%.
وسجلت منطقة المثلث التي تضم كفر قاسم وقرى أم الفحم والطيرة والطيبة وعارة وعرعرة وباقة الغربية وزيمر وجلجولية وكفر قرع، نحو 314 ألف نسمة من العرب، الذين رفض قادتهم المحليين وممثليهم السياسيين خطة ضم المنطقة للدولة الفلسطينية المقترحة منقوصة السيادة ضمن صفقة القرن، التي تبنتها وروجت لها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 2020.
(*) أوضاع معيشية متردية: على مدار السنوات الماضية ارتفعت معدلات الجريمة في المجتمع العربي بالداخل جراء تدني المستوى المعيشي والتعليمي مقارنة بالمجتمع اليهودي، وفي 2023 بلغت نسبة الأسر العربية تحت خط الفقر نحو 53% من إجمالي المجتمع العربي ارتفاعًا من مستوى 45.3% فقط في 2018، مقابل 13.4% فقط بين الأسر اليهودية، حسب المجلس الأطلسي.
وبحسب استطلاع رأي لمركز موشيه ديان بجامعة تل أبيب، بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور الألمانية، يناير 2024، يرى نحو 60% من عينة البحث من عرب الداخل أن العنف والجريمة القضية الأهم لدى المجتمع العربي، إذ قُتل نحو 98 شخصًا منذ مطلع العام وحتى 19 يناير، مقارنة بـ244 شخصًا في عام 2023 بأكلمه، وهو ما يعادل ضعف عدد ضحايا العنف في المجتمع العربي داخل الخط الأخضر في 2022.
وتشير الكثير من التحليلات الإسرائيلية والأمريكية إلى تفاوت مستويات التعليم بين الشباب العربي، إذ تمثل الفئة العمرية من 18 إلى 24 عامًا نحو 29% من المجتمع العربي، وأن معدل القاصرين العرب الذين تعرضوا للمحاكمة بلغ 40%، وأن 33% منهم انخرطوا في قضايا جنائية.
وعلى صعيد التعليم يظهر التفاوت بين الشباب العربي من الذكور والإناث من جهة وبين نظرائهم من اليهود، إذ ينخفض معدل الإنفاق على التعليم الابتدائي في النظام العربي عن نظيره في النظام التعليمي العبري، وفي 2015 بلغ متوسط الإنفاق على الطالب العربي نحو 4110 دولارات، مقابل 5150 دولارًا بالنظام العبري.
ويتراجع معدل الشباب العربي من الذكور عن الالتحاق بمستويات التعليم الثانوية والجامعية، إذ تقدر نسبة الشباب العرب الذين لم يحصلوا على الشهادة الثانوية 58%، وينخفض عدد خريجي الجامعات إلى 18% فقط، مقابل 39% للسيدات العرب، و48% من الرجال اليهود.
ويشير تقرير لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى أن نحو 28% من المراهقين العرب اعترفوا بحمل السلاح في حرم المدارس.
تضييق متزايد
رغم المشهد القاتم بشأن المجتمع العربي داخل الخط الأخضر، إلا أن مشاهد التضامن مع الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة استمرت خلال الحرب الممتدة منذ 7 أكتوبر 2023، من خلال العديد من المظاهر بداية من المظاهرات وصولًا إلى عمليات الطعن وإطلاق النار والدهس، وهو ما قابلته السلطات الإسرائيلية بتضييق الخناق على أي مظاهر للتعاطف مع الفلسطينيين على النحو التالي:
(&) منع التضامن مع المدنيين الفلسطينيين: راقبت السلطات الإسرائيلية عقب اندلاع الحرب على غزة، المحتوى المتضامن مع الفلسطينيين في الداخل موجهة الاتهامات بالانتماء لتنظيم إرهابي والتشجيع على العنف، رغم التقديرات الإسرائيلية بأن نحو 80% من عرب الداخل يعارضون بالأساس عملية "طوفان الأقصى".
ومع انطلاق الحملة البرية على غزة، ذكر بيان للشرطة الإسرائيلية، 27 أكتوبر، أنه تم إلقاء القبض على نحو 100 مشتبه به كتبوا أو تفاعلوا مع منشور متعلق بالحرب وأزالت السلطات نحو 300 منشور اعتبرته تحريضيًا، ومن بين الموقوفين في تلك الحملة ممثلة عربية من الناصرة واجهت اتهامات بالتحريض على الإرهاب.
وفي 9 نوفمبر 2023، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية 4 من قادة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية قبل المشاركة في مظاهرات "تحرض على العنف" وهم رئيس اللجنة محمد بركة، ورئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي سامي شحادة، ورئيس الحزب السابق أمطانس شحادة، ونائب الأمين العام للتجمع يوسف طاطور، وعضو الكنيست السابق عن الحزب حنين زعبي، كما تصدت لمظاهرات أخرى في أم الفحم وحيفا.
(&) طرد من العمل والجامعات: أشارت صحف عبرية مثل هآرتس إلى بعض إجراءات التقييد التي واجهها العرب في الداخل سواء من المتضامنين مع غزة أو في ضوء التمييز على أساس الهوية، إذ طلبت بلدية رحوفوت جنوب تل أبيب من متعهدي البناء بالتوقيع على إقرار بعدم وجود عمال عرب في المواقع، خلال الأيام الأولى من الحرب.
وصدر بحق نحو 160 طالبًا عربيًا في الجامعات الإسرائيلية إجراءات تأديبية، حسب إحصائية للمركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل "عدالة" محدثة بتاريخ 25 مارس 2024، ويظهر التقسيم النوعي للطلاب الذين لجأوا إلى المركز نحو 124 شخصًا منهم نحو 29 طالبًا بنسبة 23% مقابل 95 طالبة بنسبة 77%.
عرب الداخل في مرآة الصراع
تظهر الاستطلاعات الحديثة والقراءات المتعددة لموقف عرب الداخل من الحرب على غزة خاصة من باحثين ومؤسسات بحثية وإعلامية إسرائيلية أن هناك ضبابية نسبية في التعامل مع توجهات المجتمع العربي في الداخل الذي يخضع مع كل أزمة بين الفلسطينيين والجانب الإسرائيلي لحالة من الاستقطاب الحاد بين اشتعال مشاعر الانتماء القومي للشعب الفلسطيني من جهة، وبين قابلية التعايش داخل المجتمع والدولة في إسرائيل على قاعدة المواطنة السياسية المرتبطة بتوفير الخدمات وتقليص الفجوات والممارسات التمييزية تجاه العرب باعتبارهم أحد أخطر الجبهات المؤهلة للاشتعال في وجه إسرائيل، خاصة مع اتجاه وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن جفير، لتسليح اليهود في المدن المختلطة، ما يغذي مشاعر الاحتقان والكراهية في تلك المدن.
ومع قبول بعض الفئات من السكان العرب للانخراط في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، تمثل على الجانب الآخر حالة الإحباط والشعور باليأس في صفوف الشباب العربي بالداخل خاصة القاطنين في تجمعات عربية تتعرض لمضايقات مالية وخصم من المخصصات المالية الموجهة لدعم الخدمات وتحسين مستوى الحياة، يزداد حضور الشعور القومي الفلسطيني لدى تلك الفئة، فامتلاك السلاح الذي يعبر عن حالة من الفوضى في المجتمع العربي، ما قد يدفع لزيادة عمليات استهداف جيش الاحتلال في الداخل، سواء بمبادرات فردية أو ارتباطًا بخطط الفصائل الفلسطينية ومساعيها لمد أنشطتها إلى داخل الخط الأخضر.
وللدلالة على ذلك، نفذ أحد شباب قرية نحف بالجليل الغربي عملية طعن وإطلاق نار بمجمع تجاري في كرميئيل، أسفرت عن مقتل جندي وإصابة آخر، وفي حيفا نفذ شاب من مدينة طمرة بالجليل الغربي عملية دهس لجندي إسرائيلي، يناير 2024، وأعلنت السلطات أن منفذ العملية "وسيم أبو الهيجاء 28 عامًا" تم "تحييده"، وأنه يمتلك سجلًا جنائيًا في نقل عمال من الضفة الغربية دون تصاريح، وهو ما يلقي بظلال من الشك على الإحصائيات الإسرائيلية التي تعزز من رواية تصاعد العنف داخل المجتمع الإسرائيلي وتقلل من أهمية العوامل القومية في بعض العمليات وتحيلها إلى السجل الجنائي.
وإجمالًا لما سبق؛ يمكن القول إن حجم التضامن في أوساط عرب الداخل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ترتبط بأسباب قومية ودينية مجردة ولا ترتبط بنفوذ أو برامج الفصائل الفلسطينية المسلحة أو السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو ما يتعزز في ضوء الحوادث الكبرى، خاصة التي تتعلق بالوضع في الحرم القدسي أو مساعي تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم، ويتسق ذلك مع الوعي الجمعي لعرب الداخل الذين يتخوفون من مساعي إسرائيلية متكررة لإزاحتهم عن أراضيهم، خاصة إذا ما ارتبط ذلك بوجود كيان فلسطيني منزوع السيادة.