في أعقاب فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2024، خشي صانعو السياسات الصينية من تداعيات سيئة قد تطرأ على العلاقات بين بكين وواشنطن، ومع استمرار صدمة الحرب التجارية التي شنتها إدارة ترامب، وتباطؤ الاقتصاد، ونقاط الضعف الصارخة الناجمة عن الترابط التجاري، استعد قادة الصين لما وصفه الخبراء سرًا بـ "عاصفة غير مسبوقة" قد تُدمّر العلاقات الثنائية.
مع ذلك، وبعد ستة أشهر من ولاية ترامب الثانية، تحسنت التوقعات في بكين بشكل ملحو، وهدأت العاصفة، وبدأ صانعو السياسات الصينيون يشعرون بأن لديهم نفوذًا أكبر بكثير على الولايات المتحدة في مجال التجارة مما كانوا يتصورونه سابقًا.
وفي الوقت الحالي، على الأقل، ترى بكين أن ترامب، المهووس بعجز الميزان التجاري، شريك أكثر براجماتية وقدرة على التكيف من ولايته الأولى.
وحسب تحليل لمجلة "فورين أفيرز"، يعتقد قادة الصين الآن أنهم قادرون على التوسط في صفقة تجارية مع ترامب لتخفيف التوترات، وهم حريصون على استضافة قمة بين ترامب والزعيم الصيني شي جين بينج هذا الخريف، لترسيخ نبرة أكثر إيجابية للعلاقة بين واشنطن وبكين.
مع ذلك، لا يعني هذا التفاؤل الجديد أن بكين تعتقد أنها وجدت حلًا دائمًا للعلاقات الأمريكية الصينية؛ إذ لا يزال الشعور السائد في الأوساط النخبوية في الصين أن البلدين متورطان في منافسة استراتيجية طويلة الأمد.
هذه المرة، يريد قادة الصين استخدام نفوذهم التجاري لصياغة صفقة من شأنها أن تمنحهم الوقت للتخفيف من نقاط ضعفهم السياسية والأمنية.
تغير الأوضاع
عندما تولى ترامب منصبه للمرة الثانية في 20 يناير، توقعت بكين أن يستأنف العلاقات الثنائية من حيث توقفت قبل أربع سنوات، ما يعني تكثيف جهود إدارته لمعالجة اختلال التوازن التجاري بين البلدين، كما استعدت بكين لانتقادات أمريكية للنظام السياسي الصيني، وشعرت بالقلق إزاء تعزيز الدعم الأمريكي لتايوان.
أكدت المؤشرات المبكرة هذه الشكوك، ففي فبراير ومارس، فرض ترامب جولتين من الرسوم الجمركية بنسبة 10% على الصادرات الصينية، بسبب مخاوف من دخول مخدر "الفنتانيل" إلى الولايات المتحدة من الصين.
وعندما ردّت الصين على رسوم ترامب الأوسع نطاقًا في "يوم التحرير" في أبريل، بإجراءات مضادة شملت رسومًا جمركية متبادلة وقيودًا على التصدير، فرضت واشنطن رسومًا جمركية إضافية بنسبة 125% على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة.
ومع إضافة الرسوم الحالية، وصل معدل الرسوم الجمركية الأمريكية على البضائع الصينية بحلول منتصف أبريل إلى ما يقرب من 150%، وهو تصعيد كبير لم يبدُ أنه يُقدم أي مخرج.
الوضع اتخذ منعطفًا مثيرًا للاهتمام، إذ اعتقد العديد من المراقبين أن الصين قد خاطرت كثيرًا برفضها ترامب، وأن اقتصادها لن يصمد في وجه حرب تجارية، ولكن بمجرد تطبيق التعريفات الجمركية المتبادلة، فوجئت بكين برؤية واشنطن أكثر حرصًا على تهدئة التوترات التجارية.
ووقّع البلدان اتفاقية في جنيف في 12 مايو لخفض معدلات التعريفات الجمركية، وأجرى الرئيسان ترامب وشي مكالمة هاتفية في 5 يونيو. وعلى الرغم من أن الاتفاقية لم تُلغِ التعريفات الجمركية، إلا أن الجولة الأولى من التصعيد التجاري قد انتهت.
ضعف أمريكي
تشير "فورين أفيرز" إلى أن العديد من صناع القرار في بكين استنتجوا من أحداث أبريل ومايو أن قدرة الولايات المتحدة على تحمل صدمة تجارية أضعف من قدرة الصين؛ مما جعل واشنطن يائسة لإيجاد حل.
وسُر القادة الصينيون باكتشاف أن ترامب غيّر لهجته عندما أثرت الرسوم الجمركية على سوق الأسهم وسوق السندات وصناعة التجزئة والمستهلكين. وكشف رد فعل الولايات المتحدة على رسوم ترامب الجمركية لبكين عن نقاط ضغط جديدة يمكن للصين استغلالها.
خلال الأزمة، أدرك قادة الصين مدى اعتماد الولايات المتحدة على العناصر الأرضية النادرة والمغناطيسات، التي تقع إمداداتها بالكامل تقريبًا في أيدي بكين.
وعندما أوقفت الصين صادرات العناصر الأرضية النادرة الرئيسية في 4 أبريل، هددت قدرة الولايات المتحدة على الحصول على المعادن التي تحتاجها لتصنيع السيارات والطائرات ومنتجات أخرى.
ويشير التحليل إلى أن المواجهة التي تلت ذلك "أثبتت لقادة الصين فعالية نفوذهم على الولايات المتحدة"، كما أدركت بكين أن جهودها على مدار العقد الماضي لتعزيز المرونة الاقتصادية قد أثمرت.
المضي قدمًا
ويعتقد صانعو السياسات في الصين أنه من غير المرجح أن تفرض الولايات المتحدة جولة أخرى من الرسوم الجمركية الرئيسية على الصين، إذا كان ذلك سيضر بها بشكل كبير في هذه العملية.
نتيجة لذلك، ترى بكين طريقًا للمضي قدمًا من خلال مفاوضات تجارية منتظمة ومجزأة، وهو ما يناسب تفضيلاتها. ويسعد قادة الصين بالتفاوض على حلول قصيرة الأجل لاختلال التوازن التجاري، خاصة إذا كان القيام بذلك يتجنب معالجة القضايا الهيكلية طويلة الأجل في الاقتصاد الصيني، والتي يصعب تغييرها، مثل الدعم الحكومي واسع النطاق للصناعة المحلية.
بكين متفائلة بشأن التوصل إلى اتفاق قصير الأجل؛ نظرًا للاختلافات التي تراها بين إدارتي ترامب الأولى والثانية، فعلى عكس فترة ترامب الأولى، التي شكّل فيها "المحاربون الجدد في الحرب الباردة" المناهضون للصين السياسات، لم تُعر إدارة ترامب الثانية اهتمامًا يُذكر للأيديولوجيا، وتجنبت في الغالب انتقاد شرعية الحزب الشيوعي الصيني.
كما أنه خلال الأشهر الستة الماضية، التزمت واشنطن بالحد من دعمها لتايوان. فلم يكتفِ ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة بنسبة 20% على تايوان في نهاية يوليو، بل رفض أيضًا السماح للرئيس التايواني لاي تشينج تي باستخدام نيويورك كمحطة توقف خلال رحلاته الدولية المقررة، مخالفًا بذلك تقليدًا عريقًا في العلاقات الأمريكية التايوانية.
بعبارة أخرى، فإن تركيز ترامب على التجارة، وعدم اكتراثه بالقضايا السياسية الحساسة، هو بالضبط ما سعت إليه بكين منذ فترة طويلة من القادة الأمريكيين.
ويبدو الأمر كما لو أن القادة الصينيين قد حصلوا أخيرًا على "رجل الأعمال" الذي توقعوا التعامل معه عند انتخاب ترامب لأول مرة عام 2016.