في الخامس عشر من أغسطس الجاري ستُعقد قمة "ألاسكا" بين الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" وبين الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، في ولاية ألاسكا الأمريكية؛ لبحث مفاوضات السلام بعد أكثر من 3 سنوات على الحرب الروسية الأوكرانية، بجانب مناقشة تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، وتنفرد هذه القمة بأنها الأولى بين الرئيسين الروسي والأمريكي منذ عام 2021، كما أنها تُعتبر أول زيارة لرئيس روسي للولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2015.
وعليه يحاول هذا التحليل التعرف على مختلف الآثار الاقتصادية المُحتملة لقمة ألاسكا.
أبعاد محورية
يُمكن تحديد مجموعة من الأبعاد حول قمة ألاسكا، والتي يُمكن توضيحها فيما يلي:
(-) اختيار ولاية ألاسكا: يُعد اختيار ولاية ألاسكا كولاية أمريكية ينعقد بها القمة الروسية الأمريكية ذات العديد من الدلالات، فهذه الولاية تُعد أكبر ولاية أمريكية من حيث المساحة، كما أنها جزءًا من الإمبراطورية الروسية، حيث باعتها روسيا للولايات المتحدة في عام 1867 مقابل 7.2 مليون دولار أمريكي.
وفي ضوء أن هذه الولاية تلعب دورًا حيويًا في الدفاع الوطني الأمريكي وأمن الطاقة، إذ تُعد صناعة النفط والغاز أكبر مكون في اقتصاد ألاسكا، وتُغطي عائدات النفط ما يُقارب 85% من ميزانية الولاية، ومن ناحية أخرى تحتوي ألاسكا على نصف احتياطيات الفحم في البلاد، بالتالي تتضح الأهمية الاقتصادية الكبيرة لولاية ألاسكا التي رجحت اختيارها كمكان لانعقاد القمة.
(-) أهداف الرئيس ترامب: يوجد العديد من الأهداف الترامبية من قمة ألاسكا، فهناك هدف وقف الحرب الأوكرانية؛ الذي يرجع إلى أن صفقة المعادن الأمريكية مع أوكرانيا لن تؤتي ثمارها إلا مع تحقيق السلام، فالمرافق الحيوية التي دُمرت في أوكرانيا؛ بسبب الحرب ستُعطل الصفقة، مما يُفقد قيمتها عند ترامب، ومن ناحية أخرى يهدف ترامب إلى الظهور كساعٍ للسلام العالمي، فضلاً عن هدفه حول تعزيز العلاقات الاقتصادية مع روسيا بشكل كبير.
آثار اقتصادية متعددة
تتعدد الآثار الاقتصادية المُحتملة على قمة ألاسكا، إذ أنها تُلقي بظلالها على العديد من الجوانب، ويُمكن تقسيم هذه الآثار وفق النقاط التالية:
أولاً: على المستوى الأوروبي
ستحتل الحرب الروسية الأوكرانية محورًا مهمًا في محادثات قمة ألاسكا، ومن التداعيات المُحتملة في ذلك:
(-) التوتر المُحتمل في العلاقات الأوروبية الأمريكية: إن استبعاد الرئيس الأوكراني " زيلينسكي" من قمة ألاسكا، يرفع من درجة التوتر في العلاقات الأمريكية الأوروبية، خاصة إذا أسفرت القمة عن تنازلات جغرافية ترفضها كييف، بالأخص بعد إشارة ترامب بأن الرئيس الأوكراني يحتاج إلى موافقة دستورية لأي تبادل للأراضي، ومن ناحية أخرى أشار بيان الاتحاد الأوروبي، باستثناء المجر، أنه لا يجوز تغيير الحدود الدولية بالقوة، وهو الأمر الذي يوحي بالترقب الأوروبي الحذر من مخرجات القمة.
وفي هذا النطاق يأتي إجراء القادة الأوروبيون وزيلينسكي محادثات عبر الإنترنت مع نظيرهم الأمريكي "دونالد ترامب"، وتوضيحهم لخطوط حمراء قبل القمة، مُتمثلة في وقف إطلاق النار كشرط أساسي، ضمانات أمنية غربية مُلزمة يجب على روسيا قبولها، مشاركة أوكرانيا في المحادثات، دعم كلاً من الولايات المتحدة وأوروبا، بما في ذلك أوكرانيا" لأي اتفاق"، في إطار القلق الأوروبي من نتائج القمة وتأثيرها على أوكرانيا.
(-) تكلفة الدعم الأوربي لأوكرانيا: يُعتبر الاتحاد الأوروبي من أكبر الداعمين لأوكرانيا في الحرب، إذ قدم نحو 180 مليار دولار أمريكي كمساعدات مالية وعسكرية وإنسانية للاجئين منذ بداية الحرب، 35% منها مُقدمة كمنح أو دعم عيني، و35% منها كقروض ميسرة للغاية، وهو الأمر الذي ساهم في استمرار العجز في الموازنة العامة للاتحاد الأوروبي كما يوضح الشكل (1)، إذ تراوحت نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة من 2021 إلى 2024، بين ( -6.7) و (3.2-).
ومن ناحية أخرى ارتفعت نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو من 87.3% في عام 2023 إلى 87.4% في عام 2024، أما في الاتحاد الأوروبي ارتفعت من 80.8% إلى 81%، ومن هنا يتضح أنه في حالة فشل مفاوضات السلام في قمة ألاسكا، سيتحمل الاقتصاد الأوروبي التبعات الاقتصادية لاستمرار الحرب.
وبناءً عليه سيترتب على قمة ألاسكا شكل الترتيب الاقتصادي للدول الأوروبية في كيفية التعامل مع أوكرانيا في الفترة المُقبلة، إما سيُخفف من ضغوط الدعم الأوروبي لأوكرانيا، وأما سيستمر هذا الضغط مع استمرار الحرب.
ثانياً: على المستوى الروسي والصيني
سيستفيد الجانب الروسي والصيني بشكل كبير من قمة ألاسكا، وذلك على النحو التالي:
(-) الاستفادة الروسية: تنعكس قمة ألاسكا بشكل إيجابي على الاقتصاد الروسي، وذلك في ظل توقعات وقف إطلاق النار، وتخفيف العقوبات الأمريكية على روسيا، فقد انتعشت أسواق المال وارتفعت الأسهم الروسية إلى أعلى مستوياتها خلال الثلاثة أشهر الأخيرة، فقد شهد مؤشر بورصة موسكو (MICEX) ارتفاعاً بنسبة 1.9%، وكما ارتفع مؤشر MOEX بنحو 1.37% في 12 أغسطس، ومن ناحية أخرى ارتفع سعر الروبل أمام الدولار من 78.96 دولار في 7 أغسطس إلى 79.16 دولار في 14 أغسطس، أي ارتفع بنسبة 0.25%.
ويُمكن تفسير هذا الانتعاش من خلال أن الأسواق الاقتصادية في روسيا إن كانت تُظهر صلابتها أمام العقوبات، إلا أنها تُعيق مزيد من نموها وانطلاقها في السوق العالمي، وهو ما أشار إليه معهد دراسات الحرب (ISW) في تقريره اليومي حول الحرب الأوكرانية بأن قرار بوتين بالتواصل مع ترامب فور فرضه المزيد من القيود الاقتصادية على روسيا أو شركائها التجاريين يقوض رواية الكرملين أن العقوبات لم ولن تؤثر على الاقتصاد الروسي.
وفي هذا النطاق يوضح الجدول التالي أن الاقتصاد الروسي تأثر نسبياً قبل الحرب وبعدها، أي مع العقوبات، فقد انخفض إجمالي الصادرات من 58.1 مليار دولار في ديسمبر 2021 إلى 39.2 مليار دولار في ديسمبر 2024، كما أن الاقتصاد كان مُحقق فائض في الموازنة بقيمة 524.28 مليون روبل في ديسمبر 2021، ولكن تحول إلى عجز في ديسمبر 2024 بقيمة 4.9 تريليون روبل، وارتفع معدل التضخم بشكل نسبي من 8.39% إلى 9.5%.
(-) الاقتصاد الصيني: الصين تُعتبر من الرابحين بشكل كبير إذا نجحت قمة ألاسكا، وعادت روسيا بشكل كامل إلى الاقتصاد العالمي، فالصين ترتبط بعلاقات اقتصادية كبيرة مع روسيا، فقد بلغ حجم التجارة بين البلدين 245 مليار دولار في عام 2024، وفي حال لم يكن هناك حالة حرب وعقوبات اقتصادية على روسيا، فهذا الحجم كان سيزداد بشكل أكبر من ذلك.
كما أنه يوجد العديد من المشروعات المشتركة بين روسيا والصين، فمشروع "سيبيريا2" أحد أهم المشروعات بين موسكو وبكين، إذ أنه يسعى إلى توسيع إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى الصين من خلال خط أنابيب جديد يمر عبر منغوليا، هذا بالإضافة إلى تعاونهم في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، والتكنولوجيا الفائقة، وهذه المشروعات تحتاج إلى سلام في روسيا؛ كي تكتمل بشكل سريع وكفء.
ومن ناحية أخرى يُتابع الرئيس الصيني “شي جين بينج" بكل اهتمام قمة ألاسكا باعتبارها إقرارًا من ترامب بالمساواة بين القوى العظمي، حيث يتم التعامل مع روسيا والصين والولايات المتحدة كأقطاب متساوية، وعلى ذلك سيكون للصين نفوذ دبلوماسي كبير، بجانب نفوذها الاقتصادي، إذ إنه بإمكانها المشاركة بدور تنسيقي في مؤتمر شامل يضم الأطراف المعنية، خاصة ضمن إطار الأمم المتحدة.
وفي هذا الإطار تأتي القمة في توقيت تعمل فيه بكين وواشنطن على تحسين علاقتهما، إذ تم مد مهلة تفاوضيه مدتها 90 يومًا في 11 أغسطس؛ للتوصل إلى اتفاق تجاري، وكما أنه من المُرتقب أن تنعقد قمة رفيعة المستوى بين شي وترامب، قد تمهد الطريق لتعاون أوسع مع الولايات المتحدة الأمريكية. وعليه ستسمح قمة ألاسكا باستشراف "شي" انعكاساتها على آسيا قبل التواصل مع ترامب.
ثالثًا: على مستوى تكتل بريكس
تعتبر روسيا من الدول المؤسسة لتكتل "بريكس"، وبالتالي تحسُن العلاقة الروسية الأمريكية ينعكس على التكتل في العديد من النواحي:
(-) تحقيق الأهداف الأساسية للتكتل: يسعى التكتل بشكل أساسي إلى تقليل أثر هيمنة الدولار على الدول الأعضاء، وهو ما جعل الرئيس ترامب يُهدد التكتل بفرض رسوم جمركية على أعضائه؛ لمقاومة التحول بعيدًا عن التعامل بالدولار، ولكن في حال نجاح قمة ألاسكا في تقوية العلاقات الروسية الأمريكية سيُحقق التكتل تماسكًا أقوى في الفترات المُقبلة.
ولكن من الجدير بالذكر هنا أن السياسة الذي سيتبعها التكتل في هذا الشأن ستأخذ مسار تعامل الدول الأعضاء بالعملات المحلية فيما بينها، ولكن ليس بتبني عملة موحدة؛ حتى لا تتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
(-) زيادة القوة الاقتصادية للتكتل: يرتبط الثقل الاقتصادي لتكتل البريكس بالقوة الاقتصادية للدول الأعضاء فيه، فانتعاش الاقتصادين الروسي والصيني بشكل أكبر واندماجهم في النظام الاقتصادي العالمي، سيُحقق للتكتل الميزة النسبية والتنافسية بين التكتلات الاقتصادية المختلفة، مما يعود بالنفع على الدول الأعضاء ورفع معدلات النمو داخلها.
في النهاية يُمكن القول إن حدث قمة ألاسكا بين ترامب وبوتين، لا يُمثل فقط لقاءً دبلوماسيًا، بل هو اختبار لمعادلة القوة الاقتصادية والجيوسياسية في النظام الدولي، فبالنسبة لروسيا القمة تفتح نافذة أمل؛ لتخفيف العقوبات واستعادة بعض الحيوية الاقتصادية، أما الصين فهي الرابح الاستراتيجي الأكبر، إذ تُعزز القمة من موقعها كوسيط دبلوماسي وشريك اقتصادي محوري لروسيا، ما يمنحها نفوذًا أكبر داخل بريكس وعلى الساحة الدولية، وكما سيستفاد النظام الاقتصادي العالمي برمته من هذه القمة في حال تحققت أهدافها.