ربما يمثل وصف هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في كتابه "النظام الدولي" أن منطقة الشرق الأوسط هي بمثابة "مرجل الصراعات في العالم" إدراكًا واقعيًا لما يعانيه الإقليم من تهديدات معقدة لا تزال تلقي بظلالها على مسيرته نحو الاستقرار والتنمية حتى الوقت الراهن.
وربما تكشف الصراعات المتفجرة على العديد من الجبهات تلك الحالة، فهناك الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي تزايدت وتيرته منذ عملية السابع من أكتوبر 2023، والصراع الإسرائيلي الإيراني الذي تزايدت حدته عقب المواجهات العسكرية المتبادلة ما بين الدولتين، ودخول الولايات المتحدة على خط المواجهة في 22 يونيو 2025 وتوجيهها ضربات جوية ضد منشآت نووية إيرانية في فورد ونطنز وأصفهان.
كما يأتي الصراع الإسرائيلي الإيراني ليجسِّد الأطماع التوسعية للقوي الإقليمية، منها أطماع إسرائيل فى سوريا ولبنان، وتنفيذها للعديد من الضربات الجوية ضدهما، وكذلك استهداف مناطق في اليمن لوقف مساندة الحوثيين للمقاومة الفلسطينية، وسعي إيران لتنفيذ مشروعها الإقليمي من خلال أذرعها التى انتشرت فى العديد من الدول العربية في سوريا والعراق واليمن ولبنان قبل أن ينكمش ذلك التمدد بعد أن استهدفت إسرائيل قيادات تلك الأذرع، فضلًا عن المشروع التمددي التركي فى عدد من الدول العربية.
تهديدات معقدة
أسهمت العديد من العوامل في تغذية الصراعات داخل إقليم الشرق الأوسط، ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك التهديدات على النحو التالي:
(*) الصراع الإسرائيلي الفلسطيني: يجسِّد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التهديد الأبرز للأمن الإقليمي للشرق الأوسط، لا سيما الممارسات الإسرائيلية المستمرة وعدوانها على الشعب الفلسطيني، فبعد عملية السابع من أكتوبر 2023، استخدمت إسرائيل القوة المفرطة ضد الشعب الفلسطيني في غزة ومارست كل صور الانتهاكات التى يجرمها القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، ووصفت دول العالم المساندة للحقوق الفلسطينية المشروعة تلك الممارسات الإسرائيلية في غزة بأنها بمثابة إبادة جماعية لشعب أعزل، وجرائم حرب تستوجب المساءلة القانونية.
وكشفت الإحصاءات، وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، أن عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تجاوز 61 ألف شهيد، بينما تخطى عدد المصابين 152 ألفًا.
(*) تصورات الهيمنة والمشرعات الإقليمية: يشكِّل الصراع الإسرائيلي الإيراني أحد التحديات التي تواجه الأمن الإقليمي، لاسيما في إطار ما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن ما تقوم به إسرائيل من عمليات على العديد من الجبهات سيؤدي إلى تغيير الشرق الأوسط، معتبرًا أن إيران تمثل عدوًا رئيسيًا لإسرائيل، وهو الأمر الذي أدى إلى إعادة إحياء ما يوصف بمفهوم "الشرق الأوسط الجديد"، والذي سبق أن طرحته وزير الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس فى عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، ولا شك أن سعي القوى الإقليمية غير العربية لتنفيذ مشروعاتها الرامية إلى تعزيز نفوذها يسهم في تغذية الحالة الصراعية المعقدة لتفاعلات الإقليم سواء الداخلية أو الخارجية، والتي سيكون لها تأثيراتها السلبية على الفرص التنموية لدول الإقليم.
(*) الانحياز الأمريكي لإسرائيل: إذا كانت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تقوم على إستراتيجية ثابتة من أولوياتها الرئيسية حماية أمن إسرائيل، وضمان تفوقها على كل دول الإقليم، وهو الأمر الذى يجسده الدعم المتواصل لإسرائيل بصرف النظر عن وجود أيًا من الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري في الحكم، لذلك جاء دعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتوجهات رئيس الوراء بنيامين نتنياهو في الإقليم سواء ما يتعلق باستخدام الفيتو الأمريكي (حق النقض) لمنع إدانة إسرائيل في مجلس الأمن، أو اتخاذ قرار دولي لإلزام إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية فى غزة، أو ما يتعلق بدخول الولايات المتحدة الأمريكية على خط المواجهات الإسرائيلية الإيرانية، بشنِّ عمليات جوية ضد منشآت نووية إيرانية، وهذا السلوك يعكس الانحياز الأمريكي لإسرائيل من دون الالتزام بقواعد القانون الدولي أو مطالبات العديد من دول المنطقة بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، كما توافقت الإدارة الأمريكية مع الموقف الإسرائيلي برفض عزم الرئيس الفرنسي الاعتراف بالدولة الفلسطينية سبتمبر 2025، فوصف وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو، ووصفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه قرار لا وزن له.
(*) التنظيمات الإرهابية: تشكِّل التنظيمات الإرهابية وتنظيمات ما دون الدولة أحد التحديات التي تواجه وحدة الدولة الوطنية في الإقليم، ورغم الجهود الدولية والإقليمية لمواجهة تلك التنظيمات في دول الإقليم، وفي مقدمتها تنظيم داعش الذى فقد السيطرة على الأراضي في معاقله الرئيسية في سوريا والعراق، إلا أن الذئاب المنفردة للتنظيم لا تزال تشكل تهديدًا للأمن الإقليمي والدولي، كما يشكل مقاتلو التنظيم وأسرهم تحديات لا تزال ماثلة وتحتاج لاستمرار التعاون الإقليمي والدولي لمنع استعادة التنظيم لنفوذه فى المناطق غير المأهولة والحدودية البعيدة عن سيطرة الدول.
مرتكزات داعمة
برغم التحديات التي يزخر بها إقليم الشرق الأوسط، فإن هناك العديد من الفرص التى يمكن أن تشكل تهدئة لحالة الصراع الممتدة، والتي يمكن الإشارة إلى أهم مرتكزاتها على النحو التالي:
(*) حل الدولتين: يأتي تصاعد الدعم الدولي لحل الدولتين فى ظل عدالة المطالب الفلسطينية المشروعة، ورفض جرائم الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة بحق الشعب الفلسطيني، ليشكل تجسيدًا للرغبة الدولية الداعمة لإنها معاناة الفلسطينيين، فقد أعلن الرئيس الفرنسي في 24 يوليو 2025 عزمه الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمر 2025 خلال الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة، كما هدد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بالاعتراف في نفس التوقيت بالدولة الفلسطينية ما لم توقف إسرائيل حربها على غزة، كما دعا المؤتمر الدولي بنيويورك في 29 يوليو 2025 لتنفيذ حل الدولتين، وكذلك تأييد وثيقته الختامية الرامية لتطبيق حل الدولتين.
(*) تغليب المفاوضات لحل الصراعات: تشكل المفاوضات آلية فعالة لتسوية صراعات الإقليم بدلًا من توظيف القوة العسكرية لتحقيق رؤى ومشروعات إقليمية ستغذي من حالة الانقسام وعدم الاستقرار التي ستؤثر على كل دول الإقليم دون استثناء، لذلك تشكل المفاوضات وجهود الوساطة التي تبذلها مصر وقطر والولايات المتحدة لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة رغبة واضحة لمنع تدهور الأوضاع، كما تمثل المفاوضات بين إيران والدول الغربية بشأن البرنامج النووي الإيراني أفضل المداخل التى تحتاج لإرادة دولية داعمة بدلًا من تغذية صراعات الإقليم.
(*) التعاون التنموي الإقليمي: يشكل التعاون التنموي بين دول الإقليم أحد المداخل المؤثرة لتسوية الصراعات المتفجرة ومواجهة التهديدات المشتركة، لذلك فإن الأمن الإقليمي يرتبط بحالة من التعاون والتنسيق بين كل أو بعض دول منطقة ما لتحقيق التنمية والاستقرار، ومن أمثلة التجارب الإقليمية التي يمكن لدول إقليم الشرق الأوسط أن تسترشد بها تجربة منظمة شنغهاي للتعاون في آسيا، والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والسوق المشتركة لأمريكا الجنوبية (ميركوسور).
(*) التكاتف العربي: على الرغم من التحديات التي تواجه النظام الإقليمي العربي وقيمه وهويته، فإن الاستجابة لتلك التحديات ومواجهتها من الممكن أن تشكل بداية جديدة لتعزيز مناعة هذا النظام والحفاظ عليه ضد التهديدات المعقدة، لذلك يشكل التعاون الإستراتيجي المصري السعودي الإماراتي أحد الركائز الضرورية لتحقيق التكاتف العربي في ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة العربية الوطنية، ومساندة الحل العادل للقضية الفلسطينية التي تمثل قضية العرب الأولى والمركزية، فضلًا عن مواجهة تحديات الأمن المائى والغذائي، وهو ما يتطلب تعزيز التعاون الاقتصادي العربي كقاطرة للتنمية العربية.
مجمل القول، يواجه إقليم الشرق الأوسط تحديات معقدة ومتداخلة تتجسد في المشروعات التوسعية، وفي مقدمتها الأطماع الإسرائيلية في سوريا ولبنان، ومؤخرًا إقرار مجلس الوزراء الإسرائيلي في 8 أغسطس 2025 خطة لاحتلال والسيطرة على قطاع غزة، وهي الأطماع التي تشكل تهديدًا للأمن الإقليمي للشرق الأوسط، والتى تتطلب مساندة الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لوقف التصعيد في غزة، والإقرار بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة باعتبار أن تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو المدخل الرئيسي لإحلال السلام والاستقرار في إقليم يبدو أنه في مفترق طرق حقيقي.