أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الأسبوع الماضي، تهديدًا لروسيا يطالبها فيه بوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا أو مواجهة عقوبات أمريكية جديدة، تشمل عقوبات ورسوم جمركية بنسبة 100% على الدول التي تستورد النفط الروسي.
وحدد ترامب مهلة تُقَدر بـ10 إلى 12 يومًا بدأت في 28 يوليو 2025، لتنفيذ ما طلبه من موسكو عبر ذلك التهديد، وبدأ ترامب بتقليص مهلة سابقة كانت 50 يومًا إلى ما بين 10 و12 يومًا، استنادًا إلى عدم إحراز تقدم ملموس من طرف روسيا في ما يتعلق بحربها على أوكرانيا.
وفي هذا السياق، تُثار العديد من التساؤلات، أهمها: ما أبعاد التصعيد الأمريكي ضد روسيا في الوقت الراهن بصدد الأزمة الأوكرانية؟ وما الرد الروسي إزاء هذا التصعيد؟ وما أهم أوراق القوة التي يمتلكها الطرفان الأمريكي والروسي في إدارة هذا التصعيد؟ وما السيناريوهات المختلفة لما يمكن أن تسفر عنه نتائج ذلك التصعيد الأمريكي؟
في ضوء ما سبق، يأتي هذا التحليل ليركِّز على أحد جوانب توازن القوى العالمي في الوقت الراهن، والمتمثل في تزايد التصعيد بين روسيا والولايات المتحدة في سياق الحرب على أوكرانيا، وذلك من خلال استعراض النقاط الأساسية التالية:
نهج مختلف
تتبنى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نهجًا أكثر مباشرة وصرامة تجاه موسكو، وتتمثل أهم ملامحه في ما يلي:
(*) التصعيد عبر القوة الاقتصادية لا العسكرية: فقد تم التهديد بعقوبات اقتصادية شاملة، بما في ذلك فرض رسوم 100% على واردات النفط الروسي من قبل دول أخرى، فترامب يتبنى خطابًا غير تقليدي قائم على الصفقات، وهو من سماته، إذ يستخدم الاقتصاد كورقة تفاوض رئيسية، وهذه المقاربة تتناغم مع نظرته الواقعية التي ترى أن الضغط الاقتصادي أقوى من الانخراط العسكري الطويل الأمد.
(*) التفرد الأمريكي بالقرار في الأزمة الروسية الأوكرانية: يتعامل ترامب مع هذا الأزمة وفقًا للمعطيات الأمريكية فقط مع تحجيم واضح لدور الحلفاء، وهذا يتناقض مع ما كان يتم في السابق، فغالبًا ما فضلت واشنطن اتباع نهج جماعي عبر الناتو أو الاتحاد الأوروبي.
أبعاد التصعيد
إن التصعيد الأمريكي الراهن ضد روسيا، يمثل نقلة في فلسفة الردع الأمريكي عبر تحقيق النتائج بالقوة الاقتصادية لا العسكرية، ويحمل في طياته أبعاد عديدة، وذلك على عكس السياسات الأمريكية السابقة اتجاه روسيا التي اتسمت بالتريث أو الاعتماد على الإجماع الغربي، كما أن الموقف الأمريكي الحالي هو رهان محسوب على القوة الاقتصادية والهيبة السياسية، ويهدف إلى إيقاف الحرب الأوكرانية دون التورط عسكريًا.
وفي ضوء ذلك يمكن تحديد أبعاد التصعيد الأمريكي ضد موسكو في الوقت الراهن، على النحو التالي:
(*) البعد الاقتصادي للتصعيد الأمريكي مع روسيا: يرتبط هذا البعد بتهديد الإدارة الأمريكية بفرض رسوم جمركية تصل إلى 100–500% على الدول التي تشتري النفط أو الغاز الروسي، عبر مشروع قانون يدعمه أعضاء من مجلس الشيوخ والكونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فمن شأن فرض عقوبات أو رسوم ثانوية سيجعل الدول التي تشتري النفط الروسي (مثل الصين والهند) تواجه خيارًا صعبًا؛ يتمثل في: إما السوق الأمريكية وإما الروسية، وهذه مخاطرة كبيرة في الاقتصاد العالمي، وقد تؤدي إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية.
(*) البعد الدبلوماسي للتصعيد الأمريكي مع روسيا: تشير سياسة ترامب إلى محاولة فرض تسوية كبرى للصراع الأوكراني الروسي تجنبًا لأي تصعيد أوسع، لذلك يُعد الاجتماع مع بوتين عبر مبعوث رئاسي نافذة للتفاوض الجاد، لكنه أيضًا اختبار لقدرة واشنطن على كبح موسكو من دون اللجوء للقوة، كما أن إرسال مبعوث خاص إلى موسكو لعقد اجتماع مباشر مع الرئيس الروسي يعكس اهتمامًا بإتاحة فرصة للحل الدبلوماسي، وإن كان بشكل مشروط، وتتأكد أهمية هذا البعد كذلك في إدارة هذا التصعيد من جانب واشنطن، فيما تم إعلانه من جانب الكرملين من لقاء محتمل بين بوتين وترامب خلال الأسبوع المقبل.
موقف بوتين
يصر بوتين ومساعدوه على تحقيق أهداف الحرب في دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزابوريجيا قبل بدء أي مفاوضات مع أوكرانيا، حتى بعد تهديد ترامب بتحديد مهلة لروسيا لإنهاء الحرب على أوكرانيا.
وعلى ما يبدو أنه لا يوجد لديهم نية لقبول وقف مؤقت في القتال؛ فهم يتطلعون إلى سلام طويل المدى يحقق مصالحهم الإستراتيجية، ويتأكد ذلك في تصريح دميتري ميدفيديف (نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس الروسي السابق) الذي وصف فيه التهديد الأمريكي بأنه "لعبة تهديد" قد تؤدي إلى تصعيد مباشر مع واشنطن، فهو يرى في مثل هذه التهديدات بأنها نوع من "اللعب بالنار".
ويتبين مما سبق، أن روسيا حتى الآن متمسكة باستكمال أهدافها العسكرية، وتشكك في فعالية التهديدات الأمريكية، وهذا يشير إلى أن الردع الأمريكي لم يحقق بعد تأثيرًا ملموسًا، وقد تحتاج واشنطن إلى تصعيد فعلي لتثبيت مصداقية التهديد الذي أطلقه ترامب، أو القبول بمفاوضات جزئية تنقذ ماء وجه الطرفين.
السيناريوهات الأربع
بعد انتهاء المهلة التي حددها ترامب (بين 7 و11 أغسطس 2025 على حساب بدء مهلة الـ10–12 يومًا من 28 يوليو)، يمكن تصور أربع سيناريوهات لنتائج التصعيد الأمريكي الراهن ضد روسيا، تتمثل فيما يلي:
(*) السيناريو الأول (فرض المزيد من العقوبات والرسوم الجمركية): وهو السيناريو الأقرب للحدوث خاصة مع استمرار شدة العمليات العسكرية لروسيا في الأراضي الأوكرانية، وهو الأمر الذي قد ينظٌر إليه على أنه رد روسي على تهديد ترامب في ساحة القتال مع أوكرانيا، وبالتالي قد تزيد واشنطن من تصعيدها الاقتصادي ضد روسيا بفرض المزيد من العقوبات عليها، بل وفرض رسوم جديدة على الدول المتعاملة مع في مجال البترول مثل الهند.
ويتزايد احتمال حدوث هذا السيناريو في ظل الضغوط الأوكرانية على الساحة الدولية، والتي تطالب كييف من خلالها بفرض مزيد من العقوبات الدولية الاستباقية على روسيا، كما تخطط أوكرانيا لاجتماع طارئ في الأمم المتحدة لتحقيق ذلك.
ومكمن الخطر في هذا السيناريو -الذي يمثل اختبار لفعالية الردع الاقتصادي- أنه قد يخلق تصعيدًا تجاريًا عالميًا، فالتحرك نحو تشريعات أمريكية جديدة تفرض عقوبات ثانوية ومجحفة على مستوردي الطاقة الروسية أصبح واضحًا وشيك التنفيذ، بإمكانه أن يؤثر حتى على الاقتصادين الصيني والهندي.
ومن المرجح أن تقوم إدارة ترامب بعد انتهاء هذه المهلة، بتفعيل مشروع قانون"Sanctioning Russia Act" وفرض رسوم ضخمة على الدول المتداخلة في تجارة الطاقة مع موسكو، وقد يأتي الرد الروسي على ذلك على العسكري بالمزيد من الهجمات الميدانية في أوكرانيا أو بتهديدات نووية إضافية، أو تواصل تكتيك إطالة أمد الحرب على أوكرانيا.
(*) السيناريو الثاني (تصعيد روسي مضاد): يستند هذا السيناريو إلى قيام روسيا بالتهديدات تجاه أوكرانيا وحلفاء واشنطن، أو حتى تحريكها الجبهة النووية من الناحية الدعائية، فالرد الروسي حتى الآن يُظهِر عدم الانصياع للمهلة من جانب ترامب، ورفض التفاوض قبل السيطرة الكاملة على أقاليم معينة (دونيتسك، لوهانسك، زابوريجيا، وخيرسون)، فمنذ إطلاق ترامب لتهديده لروسيا في أواخر يوليو، ردّت روسيا هجمات واسعة باستخدام الطائرات المُسيَّرة والصواريخ على مدن أوكرانية مثل خَرفِي ريح وفيننيتسيا وخاركوف، إضافة إلى الاستهزاء الضمني بالتهديدات الأمريكية (كما ظهر في تعليقات ميدفيديف)، وأعقب هذه الهجمات، إعلان رسمي من مدفيديف عن سحب روسيا التزاماتها السابقة بمنع نشر صواريخ نووية متوسطة المدى، ما يشير إلى اتجاه نحو سباق تسلح نووي جديد.
(*) السيناريو الثالث (قبول روسيا بالتفاوض تحت الضغط): يتطلب تحقيق هذا السيناريو توفير تنازلات ضمنية من الطرفين الروسي والأوكراني، وهو الأمر الذي قد يُنظر إليه كنجاح سياسي لترامب، فقد يحدث تجاوب روسي محدود مع واشنطن فيما يتعلق بتسوية الأزمة الأوكرانية الروسية، وهو الأمر الذي من شأنه على الأقل التوصل لوقف نار مؤقت أو تبادل أسرى كأساس للتفاوض، بوساطة أمريكية.
(*) السيناريو الرابع (تراجع أمريكي تكتيكي): هو احتمال ضعيف لأنه في حالة حدوثه، ستتأثر مصداقية الإدارة الأمريكية في ردع روسيا الاتحادية، وقد يدفع هذا بوتين للتوسع أكثر في أوكرانيا، وهو أمر يستحيل أن تقبل به واشنطن لأنه من شأنه التأثير على قوتها ومكانتها الدولية باعتبارها القوة العظمى والقطب الأوحد في العالم.
وفي النهاية، يمكن القول إن مهلة ترامب لروسيا الاتحادية لإنهاء عملياتها العسكرية في أوكرانيا تمثل اختبارًا فاصلًا في مستقبل الحرب في أوكرانيا، وفي قدرة أمريكا على فرض الحلول وليس فقط إدارتها بشأن هذه الحرب، فإذا انتهت مهلة ترامب دون استجابة روسية حقيقية فإن السياسة الأمريكية ستدخل مرحلة التحول من التهديد إلى تنفيذ المزيد من العقوبات على روسيا وشركائها في مجال النفط، ومعنى ذلك فشل أو على الأقل تأجيل العملية الدبلوماسية التي تقودها واشنطن لتسوية الأزمة الأوكرانية الروسية، وهو الأمر الذي من شأنه أن تشهد الفترة المقبلة بعد انتهاء هذه المهلة، فرض عقوبات غير مسبوقة على الاقتصاد الروسي وشركائه، مع خطر التصعيد إلى أفق عسكري أوسع.