تبنَّت العديد من التحليلات في المنطقة العربية فكرة الاستدراج الأمريكي لروسيا في أوكرانيا خلال ولاية الرئيس السابق جو بايدن، وذلك لتحقيق هدفين، الأول يرتبط بالحد من الصعود الروسي على مسرح السياسة الدولية، والثاني الحد من كثافة العلاقات الاقتصادية الروسية الأوروبية، والتي تشكَّلت في ظل إمداد روسيا للدول الأوروبية بالغاز الطبيعي عبر خطي نورد ستريم، بما قد يؤدى إلى شراكة إستراتيجية روسية أوروبية تسهم في خروج أوروبا من المظلة الأمريكية.
لكن في المقابل وقبل انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية في 20 يناير2025، أعلن ترامب أن الحرب الروسية الأوكرانية ستتوقف بمجرد انتخابه، وبدا أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك حتى في ظل انطلاق المباحثات الأمريكية الروسية لبحث إنهاء الحرب واستعادة التمثيل الدبلوماسي بين الجانبين، وما قيل عن التقارب الروسي الأمريكي، وهو ما يثير تساؤلًا مركزيًا حول مدى نجاح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقدرته على وقف الصراع الروسي الأوكراني، وما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيتسجيب لمساعي ترامب الرامية لإنهاء تلك الحرب التي يعتبرها بوتين تجسيدًا لحماية المصالح الروسية، ومكانة موسكو فى نظام دولي جديد لا يزال قيد التشكيل.
جهود مكثفة
تنوعت الجهود الرامية لوقف الحرب الروسية الأوكرانية مؤخرًا، والتي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) الاتصالات الهاتفية بين ترامب وبوتين: شكَّلت دبلوماسية الهاتف أحد أدوات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتواصل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، والتى كان محورها الرئيسي التركيز على الحرب الروسية الأوكرانية وضرورة وقفها، لذلك أجرى ترامب ثلاثة اتصالات هاتفية، الأول فى 12 فبراير 2025، والتى كان من بين الموضوعات التى طرحت سبل إنهاء الحرب الأوكرانية، والثاني في 18 مارس 2025، وتناول من بين القضايا التي تم مناقشتها تعليق الضربات الروسية على البنية التحتية الأوكرانية تمهيدًا لبدء عملية تفاوضية لوقف إطلاق النار، فيما جاء الاتصال الثالث في 19 مايو 2025، وبعده أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن روسيا وأوكرانيا ستباشران فورًا مفاوضات للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصفها بأنها ممتازة.
وفيما أكد الكرملين أن الرئيسين ناقشا آفاقًا مبهرة للعلاقات الثنائية، أبدى بوتين استعداد موسكو للتفاوض بشأن سلام محتملة مع أوكرانيا لكن نظيره الأوكراني فلوديمير زيلينسكي شدد على أن أي قرار بشأن يلاده يجب أن يتم بموافقة كييف.
وتماشيًا مع إصرار ترامب على وقف التصعيد الروسي الأوكراني، كتب فى 17 مايو 2025 على منصة التواصل الاجتماعي "تروث سوشيال"، قبل إجراء الاتصال الهاتفي الثالث مع بوتين: " نأمل أن يكون يومًا مثمرًا وأن يتم وقف إطلاق النار، وأن تنتهي هذه الحرب العنيفة للغاية، التي ما كان أن ـحدث أبدًا".
(*) مفاوضات إسطنبول: جاءت المفاوضات الأوكرانية الروسية في العاصمة التركية أسطنبول في 16 مايو 2025 لاستئناف محادثات السلام بين الوفدين الروسي والأوكراني، كأول لقاء مباشر بين الطرفين منذ أكثر من ثلاث سنوات، واتسمت المفاوضات بمحدودية النتائج وضعف التمثبل الدبلوماسي لكلا الطرفين، لذلك وصفها العديد من المحللين بأنها جاءت مخيبة للآمال لأنها لم تتوصل إلى أى اتفاق على وقف الأعمال العدائية، غير أن موافقة الطرفين بشكل مبدئى على تبادل ألف أسير من الجانبين ربما تشير إلى رغبة الطرفين لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة.
(*) الموقف الأوروبي المشترك: تسعى الدول الأوروبية لتشكيل موقف أوروبي موحد لدعم رؤية أوكرانيا في وقف الحرب دون شروط، وتعزيز أوراق أوكرانيا التفاوضية من خلال مساندتها أوروبيًا، وهو الأمر الذي جسدته مؤخرًا المكالمة الهاتفية الجماعية التى أجراها كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والمستشار الألماني فريدرش ميرز في 15 مايو 2025، وذلك على هامش انعقاد قمة المجموعة السياسية السادسة بالعاصمة الألبانية تيرانا، والتي هدفت إلى الحصول على ضمانات بعدم إقصاء أوروبا عن المفاوضات الأمريكية الروسية، وكذلك الإعلان الأوروبي عن حزمة من العقوبات الجديدة ضد روسيا في حال رفضها التجاوب مع الدعوة لوقف إطلاق النار وبدء المفاوضات السلمية.
(*) دبلوماسية الفاتيكان: أعلن الفاتيكان في 12 مايو 2025 بمبادرة من البابا الجديد ليو الرابع عشر عن الاستعداد لاستضافة المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني، وسارع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي إلى التجاوب مع هذه المبادرة، ونشر على منصة "إكس" أن أوكرانيا مستعدة لمفاوضات حقيقية مع روسيا شريطة التوصل قبل ذلك إلى وقف غير مشروط لاطلاق النار، وفي المقابل أبدى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فى 23 مايو 2025 شكوكًا بأن يكون الفاتيكان مكانًا محتملًا لإجراء محادثات السلام مع أوكرانيا، كما أعلن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن مكان إنعقاد المحادثات لا يمكن أن يقرره طرف واحد، يجب أن يحظى بموافقة الجانبين، مضيفًا: "في الوقت الحالي لا يوجد قرار أو اتفاق بشأن موقع المفاوضات المقبلة، وأن هذا القرار سيتم اتخاذه عندما يحين الوقت المناسب".
مساران محتملان
على خلفية تنوع الجهود الرامية لوقف الصراع الروسي الأوكراني، فإن ثمة مسارين محتملين لمدى نجاح ترامب في ذلك المسعى:
المسار الأول: إخفاق ترامب في وقف الحرب الروسية الأوكرانية، ويرتبط ذلك باختلاف رؤية كل من أوكرانيا وروسيا، فعلى الجانب الأوكراني المدعوم من الدول الأوروبية هناك إصرار على وقف الحرب دون شروط مسبقة، فضلًا عن مطالبة الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي بجلاء القوات الروسية من المناطق التي احتلتها بعد اندلاع الحرب، وفي المقابل يضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العديد من الشروط لوقف إطلاق النار، ومنها الاعتراف بالأقاليم الأربعة التي تم ضمها إلى روسيا، وكذلك منع تمدد حلف شمال الأطلنطي على الحدود الروسية، ورفض طلب انضمام أوكرانيا إلى الحلف.
المسار الثاني: نجاح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إقناع الرئيس الروسي بوقف إطلاق النار، ويدعم ذلك احتمالات عقد صفقة بين واشنطن وموسكو في القضايا الإستراتيجية على المستوى الدولي، واقتسام مناطق النفوذ.
ويعزز من ذلك التصور نجاح ترامب وبوتين في إقامة علاقات متقاربة أثناء فترة الرئاسة الأولى لترامب، وأن ترامب يعتبر الصين وليس روسيا التحدي الرئيسي للولايات المتحدة، ويضاف إلى ذلك تأكيد ترامب أنه لا ينحاز لأي من طرفي النزاع، لكنه يريد وقف الحرب وإنقاذ الأرواح، مشيرًا إلى أن روسيا قدمت ما وصفه بتنازل كبير يتمثل في وقف محاولات السيطرة على كامل أوكرانيا، ولكن هذا التوجه سوف يواجه العديد من التحديات أبرزها ميل الدول الأوروبية لدعم أوكرانيا، وعدم رغبتها في أن تحقق روسيا انتصارًا على أوكرانيا.
إجمالًا، يجسِّد استمرار الحرب الروسية الأوكرانية إخفاقًا لمؤسسات النظام الدولي القائم وعدم قدرتها على حماية السلم والأمن الدوليين فى ظل التداعيات السلبية للحرب على كل أقاليم العالم، وتبقى مبادرة الرئيس الأمريكي الامريكي دونالد ترامب لوقف الحرب رهنًا باستجابة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومدى توافق الخطة الأمريكية للسلام في أوكرانيا مع تطلعات بوتين وسعيه لاستعادة المكانة الروسية على مسرح السياسة الدولية.