الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

في 7 أشهر فقط.. ترامب يعيد رسم خريطة الاقتصاد الدولي بعصا الجولف

  • مشاركة :
post-title
ترامب يعيد رسم خريطة الاقتصاد الدولي من ملاعب الجولف

القاهرة الإخبارية - عبدالله علس عسكر

في سبعة أشهر فقط، فعل دونالد ترامب ما لم يجرؤ عليه أحد قبله، إذ أدار ظهره لنظام تجاري عالمي استغرق سبعة عقود من التفاوض والهندسة السياسية الدقيقة، وحسب تقرير لمركز "المجلس الأطلسي" للأبحاث ومقره واشنطن، فإن ترامب هدم هذه ا النظام بجرأة واستبدله برؤية فردية تقوم على الصفقات الثنائية والرسوم الجمركية التصعيدية.

فبينما كان العالم منشغلًا بالأرقام والنسب، كانت الخريطة التجارية تعاد رسمها لا من خلف الكواليس، بل من ملاعب الجولف ومكاتب التفاوض الفردية، في مشهد غير مسبوق قلب فيه ترامب الطاولة على منظمة التجارة العالمية، وغير قواعد اللعبة إلى الأبد.

قلب موازين الاقتصاد

منذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، شهدت السياسة التجارية الأمريكية تحولا جذريًا، ففي حين كان معدل التعريفات الجمركية الأمريكية يبلغ 2.5% عند توليه المنصب، فقد ارتفع إلى أكثر من 15% بعد سبعة أشهر فقط، مع توقعات بوصوله إلى قرابة 20% بعد تنفيذ تعريفات إضافية تشمل النحاس والأدوية وقطاعات أخرى.

بهذا التغيير، وصلت التعريفات الأمريكية إلى أعلى مستوياتها منذ قرن، في قطيعة واضحة مع السياسات التجارية المنفتحة التي تبنتها واشنطن لعقود.

وجاءت الصورة التي تلخص المشهد الجديد من ملعب جولف ترامب في اسكتلندا، حيث جلست أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، للتفاوض على اتفاق تجاري ثنائي، مخالف تمامًا لنمط المفاوضات متعددة الأطراف التي اعتاد عليها الاتحاد الأوروبي لعقود.

في أبريل، وصف سفير الاتحاد الأوروبي لدى منظمة التجارة العالمية تعريفات ترامب بأنها "تنتهك المبادئ الأساسية لمنظمة التجارة العالمية"، لكن، وبعد أشهر فقط، بدت المنظمة وكأنها اختفت من المعادلة، وحلّت محلها تفاهمات ثنائية فرض فيها ترامب قواعده.

لطالما مثلت اتفاقيات التجارة في النظرية الأمريكية اتفاقًا على تقليص الحواجز الجمركية وتعزيز الرخاء الاقتصادي المتبادل، غير أن ترامب أعاد تعريف هذه الاتفاقيات، لتصبح معادلة جديدة هي فرض رسوم جمركية مرتفعة غالبًا 15% أو أكثر مقابل التزامات استثمارية داخل الولايات المتحدة.

وقد قبلت العديد من الدول بهذه القواعد الجديدة، ليس فقط تجنبًا لمزيد من التصعيد، بل أيضًا لأن التعريفات الجمركية تطال المستوردين الأمريكيين لا غيرهم، مما قلل من حدة الضغط المحلي على تلك الدول.

غياب الردود العالمية

باستثناء الصين، لم تبادر معظم الدول إلى الرد بالمثل على تعريفة ترامب التصعيدية، بل وافقت على صفقات تجارية كان يعتقد أنها مستحيلة، والسبب الظاهري حسب "المجلس الأطلسي" أنه لا أحد يريد الدخول في معركة اقتصادية مع الاقتصاد الأمريكي الأكبر في العالم.

لكن هناك تفسير أعمق هو "لقد وجدت دول عدة في نهج ترامب الأحادي متنفسا من خيبة أمل متراكمة تجاه مفاوضات التجارة المتعددة الأطراف التي امتدت لعقود دون نتيجة"، ومن هنا، لم يكن صعبا على ترامب أن يجد شركاء مستعدين لإبرام صفقات ولو كانت مشوّهة.

ولفهم جذور هذا التحول، أشار بيتر ماندلسون، المفوض التجاري الأوروبي السابق، إلى أن فشل جولة الدوحة لمفاوضات منظمة التجارة العالمية، والتي عجزت عن التكيف مع صعود اقتصادات مثل الصين والهند، شكل لحظة مفصلية، وقد وصفها ماندلسون بـ"الفشل الجماعي"، معتبرًا أن الثقة بالنظام التجاري لم تتعافَ بعدها بالكامل.

وعليه، فإن تحطيم ترامب للنظام لم يكن حدثًا معزولًا، بل نتيجة متوقعة لبنية تجارية كانت تزداد هشاشة.

يرجح محللو المجلس الأطلسي أن يسود نظام مزدوج في المرحلة المقبلة، حيث تتفاوض الكيانات الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي على صفقات تجارية وفق نهجين مختلفين هو الأول مع الولايات المتحدة في ظل هيمنة ترامب، والثاني مع دول أخرى مثل إندونيسيا أو دول أمريكا اللاتينية، وفقًا للأنماط التقليدية.

لكن هذا النموذج يحمل في طياته مشكلة جوهرية هي النظام التجاري العالمي لم يكن ليستمر لولا قبول الولايات المتحدة القوة الأكبر، بالخضوع لقواعده، ومع انسحابها، تفقد بقية الدول حوافز الالتزام بتلك القواعد، مما يهدد بتآكل النظام برمته.

ماذا بعد ترامب

قد يظن البعض أن ما أفسده ترامب يمكن إصلاحه بسهولة برحيله، لكن الحقائق على الأرض تُظهر عكس ذلك، فالعديد من الصفقات التي أبرمتها إدارته تتضمن التزامات لثلاث سنوات، ما يعني أن إدارات لاحقة لن تستطيع إلغاء هذه الاتفاقات ببساطة.

وحتى لو رغبت إدارة أمريكية مستقبلية ديمقراطية كانت أم جمهورية في خفض الرسوم الجمركية، فإنها ستجد صعوبة في تقديم تنازلات دون الحصول على مكاسب مقابلة، لأن الأطراف الأخرى قدمت بالفعل تنازلات كبيرة للولايات المتحدة.

منذ تأسيس الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) عام 1947، وصولا إلى منظمة التجارة العالمية، ظلت الإدارات الأمريكية تعتبر أن التجارة الحرة تخدم مصالح الأمن والاقتصاد الأمريكيين، وتظهر للعالم أن القوة العظمى يمكن أن تعمل في إطار جماعي متعدد الأطراف.

لكن ترامب جاء برؤية مختلفة تمامًا، لا تؤمن بتعددية الأطراف، بل بالصراع من أجل الصفقات، وتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية في الزمن القصير.

ما فعله ترامب لم يكن مجرد تعديل لسياسات، بل إعادة ضبط شاملة لنظام التجارة العالمي، وقد أظهر العالم استجابة مفاجئة وسريعة لهذا التحول، سواء عبر القبول الضمني أو التفاوض من موقع أضعف.

وفي ظل هشاشة النظام العالمي، والتصدعات التي ظهرت في العقدين الماضيين، لم يكن صعبًا على ترامب فرض قواعد جديدة.