في مارس 2025، أيقظ مرسوم حكومي وقّعته رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني جاليات بأكملها من أحلامها الطويلة، وحسب موقع "فير أوبزرفر" الأمريكي" فقد قلب قرار واحد موازين الهوية والانتماء، وأثار زوبعة في المحاكم والشوارع والمنازل في أمريكا الجنوبية، حيث تتردد أصداء إيطاليا القديمة في أسماء العائلات، ولغاتهم الهجينة، ومطابخهم الموروثة، وأحلامهم المؤجلة.
ميلوني تغلق الباب
في 28 مارس 2025، أقرّت حكومة جورجيا ميلوني الإيطالية قانونًا جديدًا قلب سياسة منح الجنسية الإيطالية رأسًا على عقب، عبر مرسوم أُطلق عليه اسم "مرسوم تراجاني"، نسبة إلى وزير الخارجية أنطونيو تراجاني، القانون (رقم 36/2025) وضع قيدًا حاسمًا على "حق الدم" (jure sanguinis)، الذي كان يسمح سابقًا لأي شخص يُثبت نسبه لمهاجر إيطالي، بالحصول على الجنسية، دون تحديد عدد الأجيال.
وفقًا للقانون الجديد، يحق فقط للأحفاد من الجيل الأول أو الثاني (الأب أو الجد) التقدّم بطلب الجنسية، بشرط وجود "رابطة فعلية" مع إيطاليا، كالإقامة أو المعرفة المتعمقة باللغة والثقافة.
وأثّر هذا التحول التشريعي بصورة مباشرة على أكثر من 32 مليون برازيلي و25 مليون أرجنتيني، هم أحفاد مهاجرين إيطاليين، ما أغلق الباب أمام أكبر جاليتين من أصول إيطالية خارج أوروبا.
إرث يتعرض للانقطاع
لطالما كانت دول أمريكا الجنوبية، وعلى رأسها البرازيل والأرجنتين، موطنًا ثانيًا للمهاجرين الإيطاليين، وفي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، استقبلت هذه الدول مئات الآلاف من الإيطاليين الهاربين من الفقر والاضطرابات السياسية.
واليوم، يشكل المنحدرون من أصول إيطالية نسبة ضخمة من سكان الأرجنتين 62%، وأوروجواي: 44%، وباراجواي: 37%، وفنزويلا: 16%، والبرازيل: 15%، وكولومبيا: 4%.
لكن مع ولادة أجيال جديدة، أصبحت "إيطاليا" ذكرى متوارثة، تعيش في الأسماء، وفي الطعام، وفي اللغة المختلطة، أكثر مما تعيش في الوثائق الرسمية، ومع ذلك، ظل جواز السفر الإيطالي حلمًا واقعيًا، يرمز إلى الاعتراف الرسمي بالانتماء، حتى جاء القرار ليهدم هذا الجسر.
وبررت حكومة ميلوني القانون الجديد بأنه محاولة لتنظيم منح الجنسية في ظل ما وصفته بـ"الاستغلال غير المشروع للنظام"، وأشير إلى أن بعض المتقدمين لا يملكون أدنى ارتباط فعلي بإيطاليا، وأنهم يسعون فقط للاستفادة من مزايا الجواز الأوروبي.
في عام 2024 فقط، منحت الجنسية لـ69 ألف برازيلي، ما رفع عدد الإيطاليين المقيمين في الخارج بنسبة 40% بين 2014 و2024، وقد شكّلت كثافة الطلبات عبئًا على القنصليات، خاصة في أمريكا الجنوبية.
لكن هذا التبرير لم يخفف من رد الفعل الغاضب في الجاليات المتأثرة، إذ اتهمت الحكومة بـ"خيانة تاريخية"، إذ قطعت صلة عمرها أكثر من قرن بين الوطن والمغتربين.
طعون قضائية
وتحولت القضية سريعًا إلى المحاكم، حيث رفعت دعاوى تشكك في دستورية القانون، وارتكز الطعن على أنه يخالف مبدأ "عدم الرجعية" ويصادر حقوقًا مكتسبة منذ الولادة.
في 6 يونيو 2025، جادلت المحامية مونيكا ليز ريستانيو أمام المحكمة العليا بأن الجنسية ليست منحة، بل رابطة عائلية متوارثة، ولا يمكن سحبها بقرار سياسي أو قانون إداري، ومثلت ريستانيو جمعيات مثل "AUCI" و"AGIS"، التي تقود المعركة دفاعًا عن حق الأحفاد الإيطاليين.
ولم تصدر المحكمة حكمها النهائي بعد، لكن مداولاتها تشير إلى قلقها من أن يتحول مفهوم "الهوية الإيطالية" إلى أداة سياسية بدلاً من كونه واقعًا تاريخيًا واجتماعيًا.
لم تكن الهجرة الإيطالية مجرد حركة سكانية، بل كانت صهرًا ثقافيًا عميقًا في دول أمريكا الجنوبية، ففي بوينس آيرس وساو باولو، امتزجت اللغة الإيطالية باللهجات المحلية، مكونة مفردات هجينة مثل "لونفاردو" و"كوكوليش"، وتقدر الدراسات أن أكثر من 380 كلمة في اللغة البرتغالية البرازيلية ذات أصل إيطالي.
أما في المطبخ، فتمتزج النكهات الإيطالية بالتقاليد المحلية لتنتج أطباقًا لا تزال تُقدم في آلاف المنازل والمطاعم.
في الرياضة، يظهر التأثير في "التيفو" الإيطالي الذي يملأ مدرجات الملاعب الأرجنتينية، وفي الجنوب البرازيلي تتجلى بصمات المستعمرات الزراعية الإيطالية في كروم العنب وصناعة النبيذ المزدهرة.
السياسة الجديدة للهوية
يكشف القانون الجديد عن فلسفة أكثر صرامة في تعريف من هو "إيطالي"، فبدلًا من الانتماء عبر الأجيال، أصبحت الدولة الإيطالية اليوم تعلي من القرب الزمني والثقافي، وتقصي أولئك الذين ينتمون وجدانًا ووراثة، ولكن لا يعيشون على أرضها أو يتحدثون لغتها بطلاقة.
هذا التوجه يعكس تصور جورجيا ميلوني المحافظ، الذي يرى الهوية الوطنية كعنصر حصري متماسك، لا كنسيج متعدد ومتشابك كما هو واقع الحال في الشتات الإيطالي.
وحسب موقع "فير أوبزرفر" الأمريكي"، تشكّل أزمة الجنسية الإيطالية مرآةً لصراع أكبر حول معنى الانتماء، وحدود الوطن، وحقوق النسب، في زمن العولمة، تصبح الهوية أكثر سيولة، بينما تحاول القوانين تجميدها في قوالب قديمة.
وقد لا يحمل أحفاد المهاجرين الإيطاليين في البرازيل والأرجنتين جواز سفر إيطاليًا بعد الآن، لكنهم يواصلون حمل إرثهم في اللغة، في الذاكرة، وفي الحلم.