منذ اللحظات الأولى التي حطت فيها أقدام الشاب القادم من بلاد النوبة، أرض "قاهرة المُعز"، حدد هدفه ومشروعه الغنائي الخاص، وعلى الرغم من أن مجيئه للقاهرة كان بهدف الدراسة الجامعية، فإنه في الوقت نفسه كان يبحث في دروب وشوارع العاصمة عمّن يشاركه حلمه ويتقاسم معه موسيقاه.. مقررًا أنه لا يريد أن يشبه أحدًا سوى نفسه، واضعًا خطة مُحكمة لتنفيذ هذا القرار تهدف إلى تغيير شكل الموسيقى السائدة، حتى يتمكن في سنوات قليلة من أن يصبح مثالًا يُحتذى به للأجيال التي ستتبعه.
قد تبدو المهمة سهلة لقارئ هذه السطور إذا ما احتكم لمعطيات الوقت الحالي التي تمنح الشهرة لكل من قرر هذه الخطوة، لكن إذا ما جرى قياسها بالفترة المُشار إليها، فهي مهمة أشبه بالمستحيلة؛ لذا كان أمام المغني المصري الشاب محمد منير حينها التفكير خارج الصندوق، وإقناع المُتلقي -المتأثر بفترة ثرية لا تزال أصداؤها آنذاك رنانة في الشارع المصري بأسماء خالدة مثل عبدالحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب- بأن لكل زمان رجاله، وهذا بالتأكيد لا يلغي القديم أو يؤثر على ما أنجزوه هؤلاء الكبار، بقدر ما يؤكد التنوع الموسيقي واختلاف الأذواق، وأن لكل مرحلة صوتها، وهو ما تمكن منه "منير" باقتدار إذ كان الجسر الذي عبر منه جيل جديد محمّل بآمال وأحلام وموسيقى متطورة أحدث ثورة في صناعة الكاسيت حينها.
إيمان الفنان محمد منير بأن لكل مشروع رجاله كان القاعدة التي انطلق منها ليلجأ إلى من يرسمون معه مساره الغنائي الطموح، فكان أول من آمنوا بصوته كبار الشعراء عبد الرحيم منصور ومجدي نجيب، اللذان كانا أشبه برعاة لموهبته قبل أن يتسلم المهمة معهما الموسيقار الكبير هاني شنودة. فكانت البداية من خلال ألبوم "أمانة يا بحر" الذي لم يُحقق النجاح المنتظر لموهبة ولدت كبيرة، لكن إصرار الفتى الأسمر ورغبته في النجاح وعدم العودة إلى مسقط رأسه إلا وقد تحقق في القاهرة التي ستكون نقطة انطلاقه إلى العالم كانت الدافع وراء الاستمرار؛ لذا لم يتراجع على مدار عامين في التحضير الجيد رفقة فرقته الموسيقية فيما بعد التي ضمت يحيى خليل وفتحي سلامة وناصر غزال، الذين أصبحوا فيما بعد تميمة الحظ، وهو ما تحقق مع الألبوم الثاني الذي حمل اسم "بنتولد" وحقّق نجاحًا لافتًا، بمشاركة الرعاة المؤمنين بالموهبة عبدالرحيم منصور، ومجدي نجيب، وسيد حجاب، وهاني شنودة.
لا يركن الفتى الأسمر إلى الاستسلام لأي إخفاق، بل يخلق من التجربة فرصة للتعلّم والاستفادة من الأخطاء. فرغم النجاح الكبير الذي تحقق مع ألبومه الثاني "بنتولد"، لكنه لم ينس تجربته الأولى، فلا يزال بداخله يقين بأن ما قدمه يستحق فرصة أخرى؛ لذا أعاد طرح ألبومه الأول "أمانة يا بحر" باسم مغاير "علموني عينيكي" الذي حقق نجاحًا فاق نجاح ألبومه الثاني.
اليوم يشعر الشاب منير بأنه يقف على أرض صلبة لكنه لا يزال يطمع في المزيد متسائلًا ولم لا؟.. "لو بطلنا نحلم نموت"، وبالفعل توالت نجاحاته واحدًا تلو الآخر، محققًا أكبر ضرباته الموسيقية بألبوم "شبابيك" الصادر عام 1981 الذي حاز من خلاله مبيعات فاقت كل التقديرات، ونجح أن يثبّت أقدامه بقوة ويعلن عن نفسه ومشروعه الغنائي ولونه المختلف كلية مع الجيل الغنائي الذي سبقه.
"لا عمري أبدًا خنت فني ولا فني خانّي".. لم تكن هذه الجملة مجرد كلمات في أغنية أطربنا بها الكينج، بل دستور لمسيرته، فالإخلاص والشغف والتخطيط الجيد وحب الغناء، عناصر كانت المُحرك الرئيسي لموهبة منير التي جعلتها لا تنضب مهما مرت السنون. فمن يتتبع بدايات مشوار الكينج محمد منير يتيقن بما لا يدع مجالًا للشك أنه أسس لنفسه هذه القاعدة ولم يحيد أو يتراجع عنها، لكنه كان يضيف إليها مع السنين نجاحات كبيرة ومفاجآت موسيقية وكلمات تكشف عن كنوز وتراث وثقافات قد لا يعلم عنها المتلقي شيئًا إلا من خلاله.
لنجد ضربات موسيقية أشعلت سوق الأغنية حينها وتصدّرت المبيعات، على سبيل المثال لا الحصر: "مشوار"، "أسامينا"، "الليلة يا سمرة"، "أفتح قلبك"، "من أول لمسة"، "في عشق البنات"، "قلبي مساكن شعبية"، "أحمر شفايف"، "حواديت"، "امبارح كان عمري عشرين"، و"طعم البيوت". مشوار طويل لا يدل إلا على تفرد منير وقدرته على القراءة المُحكمة لسوق الأغنية وتتبع لمسار الموسيقى العالمية جعلته يسبق دائمًا بخطوة ليظل ملكًا على عرش الأغنية المصرية والعربية.
اليوم وبعد مشوار طويل امتد لنحو 48 عامًا من الاستمرار والنجاح والبقاء على القمة، وقدرة الكينج على مجاراة الأجيال المختلفة ليكونوا ضمن جمهوره العريض دون أن يحيد عن موسيقاه ولونه الغنائي المعروف به أو يضطر آسفًا لمخاطبتهم بلغة موسيقية لا تشبهه، لم تختلف ملامح منير الموسيقية طوال هذه المدة، لذا قرر من خلال أغنيته المنفردة التي طرحها أخيرًا وتحمل اسم "ملامحنا" وتشهد التعاون الأول بينه وشركة روتانا، أن يتطرق كعادته لقضية، ألم يؤرق البعض، تجربة اجتماعية، أو حالة رومانسية.. لم لا؟ فهو من قال "أنا المغني اللي عوّد روحه على قول الحقيقة"، لذا شرّح في أغنيته الجديدة حال الكثيرين وأشار إلى جروحهم بخبرة جراح ماهر، متسائلًا "كل أما الدنيا بتجرحنا.. كل اما نغير مطارحنا.. تتبدل تفاصيل ملامحنا.. مابقتش صورنا تفرحنا ليه زي الأول؟"، ويكمل وكأنه يتحدث بلسان حال كثيرين "كل ما نطبطب على روحنا بنحن لذكرى بتدبحنا" ليعبّر بصدق عمّن تحن روحهم للذكريات وللماضي ولأرواح ألفوها كان وجودها بمثابة حياة، وبمجرد فقدانهم ضاع محبوهم في غياهب الحزن واختفت الابتسامة من وجوههم، محاولين البحث عمّا يعيد إليهم البهجة حتى ولو كان عمرها قصيرًا.
يُكمل منير العائد بعد غياب، "فيه ناس من نظرة بتلمحنا وأول أما وجودها يريحنا فجأة بتمشي وتاخد روحنا فوق ما بنتصور"، وأمام كل هذه المتغيرات التي أبانها ببراعة "تتبدل تفاصيل ملامحنا" التي تبدو أحيانًا "باهتة" وأخرى "بتنوّر".. هنا تكمن عبقرية منير في قدرته على اختيار مفردات - كتبتها هالة الزيات- ليضع بها يده على جرح غائر في قلوب الكثيرين ويعالجها بأغنية تظل خالدة مع الأجيال.
اختيار صور منير في مرحلة الشباب في الكليب لتكون بجوار صورته الحالية جاء متماسًا مع كلمات الأغنية، إذ عبّرت بشكل كبير عن الحنين لأيام وحياة وذكريات جميلة، وكأن لسان حاله يقول إن كل هذه النجاحات كانت بمساهمة محبين وأشخاص كانوا حوله ولم يصبحوا بيننا اليوم، ليكملوا معه المشوار، وفي غيابهم أصبح "الوقت اللي فيه فرحنا عمره قصير وتبدلت ملامحنا".
الأغنية التي تصدرت محركات البحث فور طرحها، واستمرت في صدارة قوائم المنصات الموسيقية، تؤكد تعطش الجمهور لصوت نجمهم الذي رافقهم في كل مراحل حياتهم منذ كانت ملامحهم طفولية، من نجاحات وإخفاقات، انتصارات وهزائم، حب وجرح، لقاء وفراق، وكأنهم يبعثون له برسالة ضمنية؛ ردًا على ما قدمه في أغنيته الأخيرة قائلين "أنت اللي فاضل من الأيام أنت.. أنت اللي باقي من الأحلام أنت".