الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

مصطفى النبيه: "دبابيس" فيلم يوثق الألم الفلسطيني ويصوغ الأمل

  • مشاركة :
post-title
بوستر فيلم "دبابيس"

القاهرة الإخبارية - إيمان بسطاوي

ننقل تجربة مقاومة النسيان والطمس
فرح ترسم وجعها.. وزهرة تداوي نفسها بالحكي

رغم الحصار والدمار وانقطاع الكهرباء وقسوة النزوح، تثبت السينما الفلسطينية مرةً تلو الأخرى، أنها قادرة على خلق صورة حية من رماد الواقع، وأنها تستطيع أن تصوغ بالألم أملًا، وتحفظ الحكاية من الاندثار، وتحوّل الكاميرا إلى سلاح مقاومة. فمن منطلق إنساني، جاء الفيلم الوثائقي "دبابيس"، تأليفًا وإخراجًا للفلسطيني مصطفى النبيه، ليشكّل صرخة بصرية، تُعيد الاعتبار لأصوات منسية تقاوم النسيان تحت خيام النزوح.

في حديث خاص لموقع "القاهرة الإخبارية"، كشف المخرج الفلسطيني مصطفى النبيه، عن كواليس هذا العمل الوثائقي، الذي وُلد من رحم المُعاناة، ووثّق تجربة إنسانية قاسية لفتاتين فلسطينيتين نزحتا من قطاع غزة بفعل القصف، لكنهما لم تستسلما للواقع، بل واجهتاه بالحكي، والتوثيق، والإصرار على الحياة.

المخرج الفلسطيني مصطفى النبيه مع أعضاء بفريق عمل الفيلم
من الألم تولد الحكاية

داخل خيمة مهترئة على أطراف النزوح، حيث يُقاس الأمل بالدبابيس، تعيش الفتاتان "فرح وزهرة" واقعًا مريرًا تتشابك فيه الخسارات اليومية بالأحلام الصغيرة. "فرح" فقدت شقيقها، فيما أُصيب والدها بمرض السرطان ويعيش بلا علاج ولا أمل في السفر. أما "زهرة"، فأُصيبت بالكبد الوبائي نتيجة الطعام الملوّث وسوء الظروف الصحية داخل الخيمة. ومع ذلك، اختارتا الحياة، واخترعتا من محيط القهر فعلًا توثيقيًا يروي وجع الناس: "برنامج دبابيس".

برنامج بسيط في شكله، لكنه عميق في مضمونه، كما وصفه المخرج. وُلد من تحت الرماد، ومن وجع التجربة الشخصية، ليصبح مساحة حرة لرواية الحكايات المنسية، صوتًا خافتًا لحياة مُعلّقة بخيط رفيع. وعن اختيار الاسم، قال النبيه: "اخترنا اسم دبابيس؛ لأنه في كل حلقة، هناك لحظة "دبوس"، لحظة الألم الأقصى، التي تُغرز فيها الحكاية كإبرة في الذاكرة".

سينما المقاومة

يضيف مصطفى نبيه: "واجهت فرح وزهرة ظروفًا شبه مستحيلة أثناء تنفيذ البرنامج وتوثيقه لاحقًا في الفيلم: انقطاع دائم للكهرباء، غياب كلي للإنتاج، أمراض متراكمة، قصف يومي، زواحف وناموس يهاجم أجساد النازحين في الليل. ومع ذلك، استمرتا في تسجيل ثلاث حكايات مركزية تشكّل العمود الفقري لفيلم "دبابيس"، وجميعها مستلهمة من الواقع اليومي في غزة".

وعن الحكاية الأولى، يقول إنها تتمثّل في والد فرح، رجل مريض بالسرطان، يعيش داخل خيمة بلا علاج، محاصر بالمرض والحدود المغلقة، محروم من الحياة والسفر والأمل. بينما الحكاية الثانية تمثّل أمًّا فلسطينية لا تستطيع الإنجاب، فوهبت حياتها لتربية الأيتام، وتفتح قلبها للكاميرا بينما تحتضن طفلًا فقد أسرته بالكامل في القصف. أما الحكاية الثالثة، فهي عن أم الشهداء الأربعة، التي فقدت أبناءها دفعة واحدة، فقط لأنهم قرّروا أن يعودوا إلى بيتهم للاستحمام بعد أيام من النزوح، فقُصفوا بلا رحمة.

الفلسطيني مصطفى النبيه
حفظ الحكاية

يؤكد أن الفيلم لا يكتفي برثاء الضحايا، بل ينقل تجربة مقاومة من نوع آخر: مقاومة النسيان والطمس، فالحكاية هنا ليست أداةً للتفريغ فقط، بل وسيلة لحفظ الذاكرة، ووسيلة لتعزيز الانتماء والهوية الفلسطينية.

من هذا المنطلق، كشف مصطفى النبيه عن أن زهرة طلبت تدريبات على قراءة قصة من تأليفه بعنوان "ستي ست الحسن"، وهي قصة رمزية عن فتاة تبحث عن الحكاية، عن الجدة، عن الجذور، عن التراث الشعبي الفلسطيني المتمثل في الأغاني والأمثال وأسطورة "الشاطر حسن وست الحسن". وتم تسجيل القصة بصوت زهرة ودمجها ضمن الفيلم، في محاولة لصياغة مقاومة ثقافية من داخل الخيمة، ولحفظ التراث في وجه المحو.

يقول النبيه إن الفيلم لم يكتفِ بعرض القصص من خلف الكاميرا، بل شاركت فرح وزهرة في عيش هذه التجارب، كلٌّ بطريقتها: فرح ترسم وجعها وتفرغه بالألوان، وزهرة تداوي نفسها بالحكي. أما الأمهات، ففتحْنَ صدورهن للكاميرا، ورفضن الموت، وكأنهن يصرخن: "نحن هنا.. لم نُمحَ بعد".

يثبت مصطفى النبيه أن السينما الفلسطينية ليست أداة فنية فقط، بل وسيلة للنجاة من النسيان، وكمقاومة ناعمة تسجّل وتوثّق وتواجه. "دبابيس" ليس فقط توثيقًا لمُعاناة اللجوء، بل هو شهادة حيّة على قدرة الفلسطينيين –وخاصة الجيل الجديد من الشباب والفتيات– على تحويل المحنة إلى مشروع حياة، وعلى اختراع لغة جديدة تحكي، تُؤرشف، وتقول للعالم: نحن موجودون، وذاكرتنا لا تموت.