في الولايات المتحدة اليوم، يبدو أن وزير الدفاع بيت هيجسيث يسلك مسارًا مثيرًا للجدل، ليس فقط في طريقة تعامله مع كبار الضباط، بل في الكيفية التي يحدّد بها معايير الولاء والجدارة؛ ما دفع البعض إلى المقارنة بين نهجه ونهج الأنظمة العسكرية في كوريا الشمالية.
وفي هذا السياق، يُطلق عضو الكونجرس الديمقراطي والضابط السابق في مشاة البحرية، سيث مولتون، جرس الإنذار، محذرًا من أن ما يجري في البنتاجون قد لا يكون مجرد إصلاحات، بل تحوّل خطير في طبيعة الجيش الأمريكي.
إقالات بلا شفافية
يعبر النائب سيث مولتون، وهو أحد قدامى المحاربين في العراق وعضو لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، عن قلقه المتصاعد من الطريقة التي ينتهجها وزير الدفاع بيت هيجسيث في إعادة هيكلة قيادة الجيش. فبالنسبة له، فإن خفض الرواتب بنسبة تصل إلى 20% للجنرالات، وتسريح بعض كبار الضباط بدون تفسير واضح، لا يُعدّ إصلاحًا هيكليًا بقدر ما هو سلوك سياسي مريب، يُقارب ما يحدث في الجيوش التي لا تخضع للمساءلة، كجيوش مثل جيش كوريا الشمالية.
قال مولتون صراحة في حوار مع مجلة "بوليتيكو": "هذه ليست وصفة لجيش مُسيّس فحسب، بل لجيش استبدادي"، مضيفًا أن هذا النهج هو أحد الأسباب التي تجعل جيوش الأنظمة الديكتاتورية أضعف من نظيرتها الأمريكية.
ما يزيد من خطورة الوضع، بحسب مولتون، هو غياب الشفافية. فرغم النداءات الرسمية من أعضاء في الكونجرس، وبينهم مولتون نفسه والنائب دون بيكون، لم يُقدّم هيجسيث أي توضيح علني حول سبب اتخاذ هذه الخطوات المفاجئة، مثل إقالة رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال سي كيو براون، أو الأدميرال ليزا فرانشيتي، التي كانت أول امرأة تشغل منصبًا بهذا المستوى.
يشير مولتون إلى أن وزير الدفاع لم يتبع مبدأً أساسيًا في القيادة، وهو "شرح النوايا"، ويعتبر أن هذا التغاضي لا يُضعف فقط العلاقة بين القيادة السياسية والجيش، بل يبعث برسالة خطيرة مفادها أن القرارات المصيرية يمكن أن تُتخذ لأسباب أيديولوجية لا علاقة لها بالجدارة.
هل يعاني الجيش من تضخم؟
على الرغم من معارضته لطريقة تنفيذ التغييرات، لا ينكر مولتون أن الجيش يعاني بالفعل من تضخم في عدد الجنرالات. فبين عامي 1965 و2023، ارتفعت نسبة الجنرالات وضباط الأعلام بنسبة 31%، مع زيادة كبيرة في الرتب العليا، 107% في الضباط من فئة الأربع نجوم، و129% في ضباط الثلاث نجوم، في الوقت الذي انخفض فيه عدد الجنود بنسبة 50%.
ومع ذلك، يؤكد مولتون أن تخفيض عدد القادة لا يجب أن يتم بشكل عشوائي. ويضيف: "يجب أن تكون لدينا استراتيجية واضحة تعكس واقع البيئة الأمنية المتغيرة، لا مجرد قرارات تقوم على أرقام جزافية مثل 20% و30%".
أكثر ما يثير الريبة في قرارات هيجسيث، بحسب مولتون، هو أن الإقالات استهدفت بشكل لافت الضباط من الأقليات العرقية والنساء. ومن بين من تم تسريحهم ثلاث نساء، منهن أول رئيسة للعمليات البحرية، وأول قائدة لخفر السواحل، رغم أن النساء يشكلن أقل من 10% من الضباط برتبة جنرال أو أميرال.
ويرى مولتون أن الأمر لا يتعلق بكفاءة هؤلاء القادة، بل بانتماءاتهم العرقية أو خلفياتهم الاجتماعية، واصفًا إقالة الجنرال براون بأنه "قرار عنصري صريح"، مؤكدًا: "إنه من أكثر الضباط موهبة في جيله، وقد أوصيتُ شخصيًا بتعيينه رئيسًا لهيئة الأركان المشتركة".
رسالة خطيرة إلى الجيش
ينبّه مولتون إلى أن هذه التغييرات لا تؤثر فقط على هيكل القيادة، بل تمتد إلى الروح المعنوية داخل المؤسسة العسكرية، فحين يرى الجنود أن قادتهم يُعزلون لأسباب سياسية أو أيديولوجية، تتراجع الثقة في مبدأ الجدارة، وتصبح القيادة نفسها موضع شك.
ويضيف: "هذه الرسالة مفادها أن لا أحد آمن في موقعه، وأن الولاء السياسي قد يتفوق على الكفاءة والمهنية".
وينتقد مولتون غياب مبدأ المساءلة في القيادة العسكرية، وهو غياب امتد لعقود، وظهر بوضوح خلال حربي العراق وأفغانستان، ويشير إلى مقولة شهيرة تعكس هذا الواقع، وهي: "الجندي الذي يفقد بندقيته يُحاسَب أكثر من الجنرال الذي يخسر حربًا".
ويرى أن الحاجة ملحّة لإعادة تعريف المساءلة داخل الجيش، ليس عبر "تطهير" القيادات العليا، بل عبر بناء نظام يقوم على تقييم الكفاءة والأداء، وليس الخلفية العرقية أو السياسية.
هيكلية جديدة بلا مبرر واضح
أحد التغييرات التي يسعى إليها هيجسيث هو دمج بعض القيادات، مثل قيادة المستقبل وقيادة التدريب والعقيدة، في قيادة موحدة، ولكن، بحسب مولتون، لم تُقدَّم أي دراسة أو استراتيجية توضح كيف سيؤدي هذا الدمج إلى تحسين الأداء أو الكفاءة.
ويعتبر أن مثل هذه القرارات، في غياب التفسير أو الشفافية، تُسهم في خلق مناخ من الريبة والقلق داخل المؤسسة العسكرية.
يرى سيث مولتون أن ما يحدث حاليًا في وزارة الدفاع لا يُمثل مجرد محاولة لإعادة هيكلة الجيش، بل هو تحوّل خطير نحو تسييس المؤسسة العسكرية، وتخريب إحدى ركائز الديمقراطية الأمريكية، "نحن نُقدّر النقد والتنوع، ونؤمن بالقيادة القائمة على المثل والقدوة"، كما يقول مولتون، مشيرًا إلى أن ما يفعله هيجسيث يقوّض كل ذلك.
ويختم بتحذير صريح: "عندما لا يعرف القادة سبب إقالتهم، وعندما يُمنع الكونجرس من أداء دوره الرقابي، فإننا لا نكون بصدد إصلاح عسكري، بل بصدد تفكيك لبنية الثقة التي قامت عليها أعظم قوة عسكرية في العالم".