الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

"عملية الشرق".. كيف أوقفت البرازيل "خط إنتاج" الجواسيس الروس؟

  • مشاركة :
post-title
روسيا استخدمت البرازيل كنقطة انطلاق لنخبة من ضباط استخباراتها -صورة تعبيرية

القاهرة الإخبارية - أحمد صوان

كشف تحقيق أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" أن روسيا استخدمت البرازيل كنقطة انطلاق لنخبة من ضباط استخباراتها في عمليات جريئة وواسعة النطاق، تخلى فيها هؤلاء الجواسيس عن ماضيهم الروسي وعاشوا بهويات برازيلية. حيث أسسوا أعمالًا تجارية، وكوّنوا صداقات، وعاشوا علاقات غرامية، وهي أحداث أصبحت، على مر السنين، حجر الأساس لهويات جديدة تمامًا.

ولفت التحقيق إلى أنه "هذه المرة لم يكن الهدف التجسس على البرازيل، بل أن يصبح هؤلاء الروس برازيليين؛ وبمجرد تغطيتهم بقصص موثوقة، كانوا ينطلقون إلى الولايات المتحدة أو أوروبا أو الشرق الأوسط ويبدأون العمل بجدية".

وتزعم الصحيفة أن الروس "حوّلوا البرازيل إلى خط تجميع لعملاء سريين"، بينما أطلق عملاء مكافحة التجسس البرازيليين على عملية اصطيادهم اسم "عملية الشرق".

وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، طارد عملاء مكافحة التجسس البرازيليون هؤلاء الجواسيس بهدوء ومنهجية. ومن خلال عمل دقيق، اكتشف هؤلاء العملاء نمطًا مكّنهم من تحديد هوية الجواسيس واحدًا تلو الآخر.

وكشف عملاء الاستخبارات البرازيلية عن تسعة ضباط روس، على الأقل، يعملون بهويات برازيلية سرية -لم تُكشف هوية ستة منهم علنًا حتى الآن- وصرّح مسؤولون بأن التحقيق شمل بالفعل ثماني دول على الأقل، بمعلومات استخباراتية من الولايات المتحدة وإسرائيل وهولندا وأوروجواي وأجهزة أمنية غربية أخرى.

صورة تعبيرية
أشباح موسكو

حسب التحقيق، لم يكن تفكيك مصنع تجسس الكرملين مجرد عملية روتينية لمكافحة التجسس، بل كان "جزءًا من التداعيات المدمرة لعقد من العدوان الروسي"، وفق "نيويورك تايمز".

ولفتت الصحيفة إلى أن التحقيقات البرازيلية "وجهت ضربةً قاصمة لبرنامج موسكو للمهاجرين غير الشرعيين. أدت إلى استبعاد مجموعة من الضباط ذوي التدريب العالي الذين يصعب استبدالهم". حيث أُلقي القبض على اثنين منهم على الأقل، أما الآخرون، فقد هربوا على عجل إلى روسيا "وبعد كشف هوياتهم، من المرجح أنهم لن يعملوا في الخارج مرة أخرى".

ويعود الأمر إلى أوائل أبريل 2022، بعد بضعة أشهر فقط من دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، عندما أرسلت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية رسالة عاجلة وغير عادية إلى الشرطة الفيدرالية البرازيلية. حيث أفادت تقارير أمريكية بأن ضابطًا سريًا في جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية وصل أخيرًا إلى هولندا للتدريب مع المحكمة الجنائية الدولية، في الوقت الذي بدأت فيه المحكمة التحقيق في جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا.

كان المتدرب المُحتمل مسافرًا بجواز سفر برازيلي باسم فيكتور مولر فيريرا، لكن المخابرات الأمريكية قالت إن اسمه الحقيقي هو سيرجي تشيركاسوف، ومنعه مسؤولو الحدود الهولنديون من الدخول، ليستقل طائرة متجهة إلى ساو باولو.

بسبب محدودية الأدلة وساعات العمل القليلة، لم يكن لدى البرازيليين صلاحية اعتقال تشيركاسوف في المطار. لذلك، أبقته الشرطة تحت مراقبة مشددة لعدة أيام متوترة، بينما بقي طليقًا في أحد فنادق ساو باولو "وأخيرا، حصل الضباط على مذكرة اعتقال وقاموا باعتقاله، ليس بتهمة التجسس، ولكن بتهمة أكثر تواضعًا وهي استخدام وثائق مزورة".

وأثناء الاستجواب، كان تشيركاسوف مُصرًا على أنه برازيلي، وكان بحوزته الوثائق التي تُثبت ذلك. لكن لم تبدأ قصته والعملية الروسية بأكملها في البرازيل في الانهيار إلا عندما عثرت الشرطة على شهادة ميلاده.

وخلص المحققون إلى أن "فيكتور مولر فيريرا لم يكن موجودًا أصلًا" رغم أن لديه شهادة ميلاد حقيقية، حيث إن الأم المفترضة -وهي حقيقية- لم تُرزق بطفل قط، ولم تعثر السلطات على أي شخص يُطابق اسم الأب.

هنا، بدأ العملاء البرازيليون البحث عما أطلقوا عليه "الأشباح"، وهم أشخاص يحملون شهادات ميلاد شرعية، قضوا حياتهم دون أي سجل يشير إلى وجودهم فعليًا في البرازيل، ثم ظهروا فجأة كبالغين.

وللعثور على هذه الأشباح، بدأ العملاء في البحث عن أنماط في ملايين سجلات الميلاد، وجوازات السفر، ورخص القيادة، وأرقام الضمان الاجتماعي.

مبنى المباحث الفيدرالية البرازيلي
حقل الجواسيس

بغض النظر عن البلد الذي يعملون لصالحه، يواجه جميع الجواسيس التحدي نفسه، وهو إنشاء هوية مزيفة قادرة على الصمود أمام التدقيق.

ولأجيال، استخدم العملاء السريون جوازات سفر مزورة، وأسماءً مسروقة، وقصصًا مُعدّة بعناية. أما العصر الرقمي، الذي يمتلك فيه كل شخص تقريبًا تاريخًا إلكترونيًا، فقد زاد الأمور تعقيدًا.

وبينما تُوظّف جميع أجهزة التجسس شبكات من المخبرين المحليين تعتبر روسيا حالةٌ فريدة. أو كما قال عنهم بوتين نفسه في مقابلة تلفزيونية عام 2017: "هؤلاء أناسٌ مميزون، يتمتعون بصفاتٍ فريدة، وقناعاتٍ فريدة، وشخصيةٍ فريدة".

وأضاف: "إن ترك حياتك السابقة، وترك أحبائك وعائلاتك، وترك وطنك لسنواتٍ طويلة لتكريس حياتك لخدمة الوطن، ليس بالأمر الذي يستطيعه الجميع. وحدهم المختارون قادرون على ذلك، وأقول هذا دون أي مبالغة".

كان الرئيس الروسي أشرف على عدد من هؤلاء العملاء إبان عمله في المخابرات السوفيتية بألمانيا الشرقية قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي.

بالفعل، بدت البرازيل مكانًا مثاليًا لجواسيس موسكو المختارين. يُعد جواز السفر البرازيلي من أكثر جوازات السفر فائدةً في العالم، إذ يسمح بالسفر بدون تأشيرة إلى عددٍ من الدول يُقارب عدد الدول التي يسمح بها الجواز الأمريكي.

وبينما تشترط العديد من الدول التحقق من مستشفى أو طبيب قبل إصدار شهادات الميلاد، تسمح البرازيل باستثناء خاص للمولودين في المناطق الريفية. حيث تصدر السلطات شهادة ميلاد لأي شخص يُصرّح، بحضور شاهدين، بأن أحد والديه على الأقل برازيلي.

ومع شهادة الميلاد في متناول اليد، كل ما عليك فعله هو التقدم بطلب تسجيل الناخبين، والأوراق العسكرية، وأخيرًا، جواز السفر. بمجرد الحصول على هذه المعلومات، يمكن للجاسوس أن يذهب إلى أي مكان تقريبًا في العالم.

صورة تجمع جواسيس لروسيا كشفت السلطات البرازلية الغطاء عنهم
مضايقة روسيا

وفق التحقيق، أمضى العملاء البرازيليون الذين يديرون "عملية الشرق" ساعات لا حصر لها في الكشف عن أسماء العملاء الروس المزيفة، وشاركوا ما توصلوا إليه مع وكالات الاستخبارات العالمية، التي قارن ضباطها تلك المعلومات بسجلات عملاء استخبارات روس معروفين.

وعندما وجدوا تطابقات، استطاع البرازيليون في بعض الحالات ربط أسماء حقيقية بالهويات البرازيلية المزيفة.

وبينما حافظت البرازيل على علاقة ودية مع موسكو، اعتُبر استخدام الكرملين للأراضي البرازيلية في عملية تجسس واسعة النطاق "خيانة". لذلك "فكّرنا مليًا، ما هو أسوأ من الاعتقال بتهمة التجسس؟ إنه انكشاف أمرك كجاسوس"، كما نقلت الصحيفة عن محقق برازيلي.

ولإيصال الرسالة توصل المحققون إلى استخدام الإنتربول لحرق جواسيس بوتين في انتقام ساخر من الاستخبارات الروسية التي "تلاعبت لسنوات بقواعد بيانات الإنتربول لمضايقة المعارضين السياسيين".

هكذا، في خريف العام الماضي، أصدر البرازيليون سلسلة من نشرات الإنتربول الزرقاء -وهي تنبيهات تطلب معلومات عن شخص ما- وعُممت هذه النشرات على جميع الدول الأعضاء الـ 196 أسماء وصور وبصمات جواسيس روس باعتبارهم يخضعون للتحقيق بتهمة استخدام وثائق مزورة.