أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، في خطوة تهدف إلى دعم تعافي اقتصادها المُنهك منذ عام 1979 وتجدد العقوبات في 2011.
وأكدت مصادر دبلوماسية اتفاقًا أوروبيًا مبدئيًا على رفع القيود، فيما دعا ماكرون لإنهاء العقوبات عند موعد تجديدها. تأتي هذه التحركات وسط تقديرات للبنك الدولي بأن كلفة إعادة إعمار سوريا تتجاوز 250 مليار دولار، وكان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" أعلن في 13 مايو الجاري، خلال جولته الخليجية أن الولايات المتحدة الأمريكية سترفع العقوبات عن سوريا بالكامل، إذ يُعاني الاقتصاد السوري من تدهور كبير في مؤشراته الاقتصادية.
العقوبات تقطع السبيل على الدول بأن تندمج بشكل طبيعي في الاقتصاد العالمي، وهو ما جعل قرار ترامب والاتحاد الأوروبي برفع العقوبات عن سوريا بمثابة انفراجة حقيقية للاقتصاد السوري.
ومن الجدير بالذكر هنا أن ثلاثة مسؤولين أمريكيين أكدوا أن إدارة ترامب بدأت في مراجعات فنية للعقوبات المفروضة على دمشق، تمهيدًا لرفعها، بالإضافة إلى أنهم أوضحوا أن وزارة الخزانة الأمريكية ستصدر تراخيص لسوريا حتى رفع العقوبات.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على ملامح نظام العقوبات على سوريا سواء من الاتحاد الأوروبي أو من الولايات المتحدة الأمريكية، وتأثيراته المختلفة على الاقتصاد، فضلًا عن توضيح انعكاسات رفع هذه العقوبات.
ملامح مهمة
يُمكن توضيح ملامح العقوبات التي فُرضت على الاقتصاد السوري من خلال النقاط التالية:
(-) الحظر التجاري: كانت العقوبات على النظام التجاري السوري من أهم العقوبات، إذ تم حظر استيراد المعدات العسكرية وغيرها من المواد المرتبطة بها من سوريا، كما أن الحظر شمل توفير التمويل والمساعدة المالية المتعلقة بالمعدات العسكرية أو المواد المرتبطة بها، بالإضافة إلى توفير خدمات التأمين وإعادة التأمين والوسائط المتعلقة بالتأمين وإعادة التأمين لأي عملية شراء أو استيراد أو نقل لهذه المواد إذا كان منشؤها سوريًا.
ومن ناحية أخرى، تم تطبيق الحظر على المعدات التكنولوجية، بأن تم حظر تصدير أو بيع أو نقل المعدات أو البضائع إلى سوريا، وتخص العقوبات في هذا الأساس المعدات والتكنولوجيا الرئيسية لقطاعات صناعة النفط والغاز في سوريا مثل استكشاف النفط الطبيعي والغاز الطبيعي وإنتاجهما.
إذ كان الحظر النفطي من أهم العقوبات على سوريا، باعتباره من المصادر الأساسية للإيرادات في سوريا، فقد شملت هذه العقوبات منع الشركات الدولية من شراء النفط السوري أو الاستثمار في قطاع الطاقة في سوريا.
(-) حظر التعاملات المالية: تضمنت العقوبات منع المؤسسات المالية العالمية من التعامل مع البنك المركزي السوري، الأمر الذي عزل سوريا عن النظام المالي العالمي، وأصبح من الصعب على الحكومة السورية تمويل أي عمليات داخلها.
(-) تجميد الأصول: تضمن نظام العقوبات في الاقتصاد السوري تجميد أموال أشخاص دعمت السُلطات السورية في عهد بشار الأسد، من خلال عدم إتاحة أي أموال أو موارد اقتصادية لهم بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو الأمر الذي أثر على دورة رؤوس الأموال داخل الاقتصاد.
تأثيرات جمة
أثرت العقوبات الأمريكية والأوروبية على الاقتصاد السوري بشكل كبير، كما يتضح على النحو التالي:
(-) خسائر تجارية: فقدت سوريا تجارتها الخارجية بشكل كبير في ظل نظام العقوبات المفروض عليها، إذ كما يوضح الشكل (1) ارتفع عجز الميزان التجاري بشكل كبير خلال الفترة من 2011 إلى 2022، حيث قفز من 460 مليار ليرة سورية إلى 17.4 تريليون ليرة سورية، وهو الأمر الذي يدل على أن التجارة الخارجية لسوريا تضررت بشكل كبير للغاية مع نظام العقوبات.
وهو ما أفقد الاقتصاد إيرادات ضخمة، أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي من 67.5 مليار دولار في عام 2011 إلى 9 مليارات دولار في عام 2024، كما يوضح الجدول.
(-) خسائر نفطية: تعتبر خسائر قطاع النفط من أكبر الخسائر التي أضرت بالاقتصاد السوري، إذ كان هذا القطاع يُسهم بنسبة 35% من إجمالي إيرادات التصدير، وقد أفادت وزارة النفط السورية بأن خسائر قطاع النفط من عام 2011 إلى بداية عام 2024 قدّرت بنحو أكثر من 100 مليار دولار، فسوريا لم تصدر نفطًا منذ عام 2011، بعد أن كانت من المصدرين الصافيين.
وبالإضافة إلى ذلك، حظرت العقوبات أي استثمارات في مجال الطاقة، وبناء محطات طاقة جديدة والاستثمار في الشركات العاملة في تطوير وإنتاج النفط، خاصة بعد قانون "قيصر" الأمريكي في عام 2020 الذي عزز من هذه العقوبات، وهو ما جعل الشركات العالمية توقف عملياتها في سوريا، مما تسبب في انخفاض تصدير النفط والغاز من البلاد.
ففي عام 2012 خسر الاقتصاد السوري حقول النفط والآبار (معظمها في الشمال الشرقي)، وهو الأمر الذي ترتب عليه انخفاض إنتاج النفط كما يوضح الشكل (2)، إذ انخفض من 380 ألف برميل في اليوم في عام 2007 إلى 54 ألف برميل في اليوم في عام 2024، وهو الأمر الذي يوضح الخسائر الكبيرة التي عانى منها قطاع النفط السوري.
(-) انهيار الليرة السورية: كان سوق الصرف من أهم الأسواق التي تأثرت بالأحداث منذ عام 2011 والعقوبات الاقتصادية التي رافقتها، فقبل اندلاع الصراع كان سعر صرف الدولار 46 ليرة سورية فقط، وبحلول أواخر عام 2011، وصل إلى 60 ليرة سورية، واستمر في الانخفاض الحاد مع تفاقم الحرب.
وعلى هذا الأساس، خلال عام 2012 تراوح متوسط سعر الصرف من 75 إلى 95 ليرة سورية للدولار الواحد، ثم ارتفع هذا المتوسط في عام 2013 ليتراوح من 165 إلى 170 ليرة سورية، ثم حدث انخفاض حاد في عام 2016 ليتراوح سعر الصرف من 500 إلى 700 ليرة سورية، إلى أن انهار بشكل كبير للغاية في عام 2023، إذ بلغت الليرة السورية 16 ألفًا أمام الدولار.
وعليه، يُمكن القول إن تدهور الليرة السورية أمام الدولار ترتب عليه آثار اقتصادية واجتماعية كبيرة، إذ ارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير، حيث بلغت 140% في عام 2024، وهو الأمر الذي أثر على قدرة السوريين على توفير متطلباتهم الأساسية، مما ترتب عليه ارتفاع الفقر ثلاث مرات ليصل إلى 96% من السكان في عام 2022.
انعكاسات مستقبلية
ينعكس قرار رفع العقوبات عن سوريا إيجابيًا على اقتصادها بشكل كبير، كما يتم التوضيح في النقاط التالية:
(-) انتعاش قطاع الطاقة: باعتبار أن قطاع النفط كان من أكثر القطاعات المتضررة من العقوبات على الاقتصاد السوري، فإن رفع العقوبات بالكامل سيعمل على عودة الإنتاج في آبار النفط، ويُمكن البلاد من تصدير النفط والغاز، الأمر الذي سيدر إيرادات ضخمة، ويستعيد دور سوريا في التجارة العابرة للحدود.
وبالتالي، يُمكن القول إن قطاع الطاقة من أول القطاعات التي ستستفيد من رفع العقوبات بالكامل عن سوريا، وهو سيوفر للدولة مليارات الدولارات التي يُمكن أن تعيد تدويرها في القطاعات الإنتاجية الأخرى، وهو ما يُحسن النمو الاقتصادي داخل الدولة.
(-) دعم قطاع الاستثمار: من المُرجح بشكل كبير أن يترتب على رفع العقوبات عن سوريا أن تصبح الدولة جاذبة للاستثمارات بشكل كبير، خاصة ممن لديهم رغبة في الدخول إلى أسواق جديدة أو من يرغب في المساهمة في عمليات إعادة الإعمار، إذ أوضح حاكم مصرف سوريا المركزي أن هناك 50 جهة أبدت اهتمامها بالاستثمار في سوريا.
كما يشير المجلس الأطلسي إلى أن رفع العقوبات عن سوريا من المحتمل أن يسمح للشركات الأمريكية أن تتنافس على جهود إعادة الإعمار المتوقعة بقيمة 400 مليار دولار، وهو الأمر الذي سيعمل على توفير 3 ملايين فرصة عمل خلال 10 سنوات.
(-) استقرار الليرة السورية: نظرًا لأن انهيار الليرة السورية كان بسبب عدم الاستقرار السياسي، واستنزاف الموارد الاقتصادية منذ عام 2011، وارتفاع سقف العقوبات، فإنه من المتوقع بشكل كبير أن يترتب على رفع هذه العقوبات تحسّن سعر الليرة السورية أمام الدولار، خاصة مع الانتعاش المتوقع حدوثه في الصادرات السورية من النفط، فمن المحتمل أن ترتفع الليرة السورية بنسبة 30% أمام الدولار.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الليرة السورية ارتفعت أكثر من 16% أمام الدولار الأمريكي في السوق الموازية بعد إعلان ترامب قرار رفع العقوبات، إذ تراجع سعر بيع الدولار إلى 8700 ليرة مقابل 9700 ليرة قبل القرار.
(-) انتعاش سوق البورصة: سينعكس رفع العقوبات عن الاقتصاد السوري على انتعاش سوق البورصة بشكل كبير، إذ إنها سترفع الحظر عن أموال البنك المركزي والأصول المجمدة في الخارج، وبالتالي سيتم عمل تنظيم خاص للأموال المخصصة للاستثمار في سوق البورصة، فضلًا عن العمل على جعل الليرة السورية قابلة للتحويل، وهو ما يرتبط مباشرة بإصلاح مصرفي شامل، وإعادة تفعيل نظام التحويل العالمي "سويفت"، الأمر الذي يُسهل عمليات التصدير.
ومن هنا يُمكن القول إن قرار ترامب والاتحاد الأوروبي، برفع العقوبات عن الاقتصاد السوري يُعتبر تحريكًا كبيرًا للمياه الراكدة في هذا الاقتصاد، فسوريا لا تستطيع أن تعيد ترميم اقتصادها بدون أن يتم رفع العقوبات المفروضة عليها؛ لأنها بمثابة عنق الزجاجة لها، وعليه من المفترض أن يؤدي تخفيف القيود الاقتصادية إلى تحسين بيئة الاستثمار، وفتح قنوات تجارية مع دول العالم، الأمر الذي سيُحرك عجلة الاقتصاد.
وفي المحصلة، فإن رفع العقوبات يُشكل فرصة اقتصادية نادرة لسوريا، لكنه ليس حلًا سحريًا، فالانتقال من الانهيار إلى التعافي يتطلب أكثر من مجرد تخفيف خارجي، بل يتطلب إرادة داخلية للإصلاح.