شهدت سوريا، 30 أبريل 2025، اشتباكات داخلية عنيفة ذات خلفية طائفية، حدثت في بلدة صحنايا قرب دمشق التي يسكنها سكان من الأقلية الدرزية، إضافة إلى اشتباكات مُماثلة في مدينة جرمانا، وعلى هذا الأساس يواجه تحقيق الانتعاش الاقتصادي في سوريا تحديات جمة في ظل هذه التوترات السياسية التي لا تنتهي.
وتأسيسًا على ما سبق يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على الأزمات الهيكلية التي يُعاني منها الاقتصاد السوري، مع توضيح مدى مرونة الاقتصاد في التعامل مع الأزمات الحالية.
أزمات هيكلية
يُعاني الاقتصاد السوري من أزمات عديدة يُمكن توضيحها فيما يلي:
(*) انخفاض معدل النمو: انعكس تراجع النشاط الاقتصادي داخل الأراضي السورية على معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير، ووفقًا للشكل (1) سجل معدلات سالبة، خلال الفترة من 2013 إلى 2017، بسبب التأثيرات طويلة الأجل للأزمة التي اندلعت في الاقتصاد السوري من منتصف يناير 2011 إلى نهاية عام 2013، وبعد هذه الفترة بدأت معدلات النمو تتجه إلى نسب موجبة، ما عدا عام 2020، لكن ما زال معدل النمو ضعيفًا بالنسبة للإمكانات التي يمتلكها الاقتصاد السوري، إذ سجل عام 2024 نحو 2.2%، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي لسوريا في هذا العام إلى أقل من نصف قيمته، عام 2010.
(*) ارتفاع معدل التضخم: عانى الاقتصاد السوري من ظاهرة التضخم التي تؤدي إلى تآكل حاد في القدرة المالية للأسر، إذ بلغ متوسط سلة الإنفاق التي تشمل الغذاء والطاقة والاتصالات والقطن 2.7 مليون ليرة سورية "نحو 200 دولار أمريكي" شهريًا لأسرة مكونة من خمسة أفراد في عام 2024، بالمقارنة بـ10 ليرات سورية فقط عام 2010.
وعلى الرغم من انخفاض مستوى التضخم العام إلى 15.87%، فبراير 2025، بالمقارنة بـ129% فبراير 2024، إلا أن مؤشر أسعار المستهلك الذي يُركز على أسعار مجموعة من السلع الأساسية هو المؤشر الأدق، لمتابعة الأسعار في السوق السورية.
(*) دمار البُنى التحتية: يُعد الدمار الذي حدث في البنية التحتية للاقتصاد السوري من أكبر الخسائر، إذ تدمرت البنية التحتية لقطاع الطاقة والكهرباء بشكل كبير، وتعرض أكثر من 70% من محطات توليد الطاقة وخطوط النقل إلى أضرار جسيمة، الأمر الذي ترتب عليه انخفاض سعة الشبكة الوطنية بأكثر من 75%، الأمر الذي أعاق قدرة البلاد على توفير الكهرباء، إذ انخفض إنتاج الطاقة بنسبة 80% منذ بداية الصراع.
وإضافة إلى ذلك سيطرت مختلف الفصائل على مواقع إنتاج النفط والغاز، ما ترتب عليه فقدان موارد طاقة كبيرة، كانت تستخدم كسلعة تصديرية، الأمر الذي أسهم في انخفاض حاد بالاحتياطيات الأجنبية، وذهبت التقديرات إلى أنها انخفضت لما يقرب من 200 مليون دولار فقط.
(*) تدهور مؤشر التنمية البشرية: يُعد المواطن المؤهل علميًا وعمليًا من المتطلبات المهمة لعملية التنمية الاقتصادية، فبدون وجود كوادر ذات خبرة في الاقتصاد السوري لن يستطيع هذا الاقتصاد أن ينهض، وفي ظل الصراعات التي عاشها، تأثر مؤشر التنمية الذي أظهر تقدمًا خلال الفترة من 1975 إلى عام 2010، لكنه انخفض عام 2024 إلى 0.55، وانخفض ترتيب سوريا في هذا المؤشر من 115 في 2010 إلى 157 عام 2024، وهي مستويات لم تشهدها سوريا منذ ما يقرب من أربعة عقود.
(*) ارتفاع معدل البطالة: شهد سوق العمل في سوريا اضطرابات شديدة، إذ تم فقد ما يُقدر بـ500 ألف إلى 600 ألف وظيفة سنويًا، خلال الفترة من 2011 إلى 2016، الأمر الذي ترتب عليه فقدان أكثر من 3 ملايين وظيفة على مدار 5 سنوات، وفي عام 2024 ارتفع معدل البطالة إلى 14.25%، بالمقارنة بـ13.5%، وهو الأمر الذي ترتب عليه مواجهة السوريين تحديات معيشية بالغة.
(*) ارتفاع معدل الفقر: توسعت معاناة السوريين من الفقر، أي أنه تعدى مصطلح الفقر النقدي، وأصبح المواطن السوري يُعاني من فقر متعدد الأبعاد، فقد تزايدت عدم قدرة السوريين على الوصول إلى الخدمات الأساسية، فوفقًا للشكل (3) ارتفع عدد المحتاجين في سوريا إلى 16.7% في عام 2024 بالمقارنة بـ1% عام 2010.
وهو الأمر الذي يعكس الانخفاض في الحصول على الخدمات الأساسية، المدفوع بتدمير البنية التحتية على نطاق واسع وانهيار تمويل القطاع العام اللازم لدعم هذه الخدمات، إضافة إلى عجز الدولة عن ترميم الخدمات الأساسية وصيانتها وتمويل تكاليف تشغيلها.
(*) انهيار سعر الصرف: نوفمبر 2024، فقدت الليرة السورية 99.7% من قيمتها، ليصل سعر الصرف إلى 14000 ليرة سورية للدولار الأمريكي، بالمقارنة بـ50 ليرة سورية للدولار الأمريكي، عام 2010، إذ تسببت العقوبات الغربية في هذا التدهور بشكل كبير، لأنها قيدت من حجم التجارة السورية ورفعت من تكاليف الاستيراد، إضافة إلى خفض التحويلات المالية، وفي نهاية الربع الأول من عام 2025 سجلت الليرة السورية نحو 11 ألف للدولار الأمريكي، وهو الأمر الذي يوضح استمرار انهيار العملة السورية.
مرونة الاقتصاد
في ظل المؤشرات السابقة يُمكن التعرف على درجة مرونة الاقتصاد السوري، خلال الفترات المُقبلة من خلال النقاط التالية:
(-) تقييم تحركات الحكومة: إن وضع الحكومة السورية خطة اقتصادية تهدف إلى إعادة تشكيل الاقتصاد السوري بعيدًا عن الاشتراكية، تُعد خطوة إيجابية، إذ إنه كما تم الإعلان ستُركز على إعادة إحياء البنية التحتية وجذب الاستثمارات وخصخصة شركات القطاع العام، لكن مع هذه المعالم الأساسية للخطة، لم يوضح الرئيس السوري أحمد الشرع، آليات تنفيذ هذه السياسات، وهو الأمر الذي يفقدها فعالية كبيرة على أرض الواقع، فخلال الربع الأول من عام 2025 لم تنجذب استثمارات أجنبية إلى الاقتصاد السوري ولم يتم البدء في ترميم البُنى التحتية الذي تم تدميرها.
(-) مدى إمكانية رفع العقوبات: تسبب نظام العقوبات في عُزلة الاقتصاد السوري عن العالم الخارجي، وهو ما جعل التعافي الاقتصادي في سوريا مرهونًا بشكل كبير بمدى رفع هذه العقوبات.
وفي هذا الإطار سلمت الولايات المتحدة دمشق، مارس الماضي، ثمانية شروط لرفع العقوبات عن سوريا، التي وصفها البعض بالتعجيزية، منها التعاون في مكافحة الإرهاب، وإبعاد الفصائل الفلسطينية، والالتزام بالعمليات العسكرية الأمريكية في سوريا، والمطالبة بإصلاحات داخلية في الحكومة السورية، والقضاء على النفوذ الروسي الإيراني داخل البلاد، وتحقيق الشفافية بما حدث في اللاذقية.
ومن دراسة هذه الشروط يتضح أن تنفيذها بشكل كامل ليس بالسهل على الحكومة السورية، وهو الأمر الذي يُرجح أن رفع هذه العقوبات لن يتم على الأجل القصير، وهو ما يترتب عليه أن الاقتصاد سيظل يُعاني العديد من الأزمات.
(-) مستوى خطة إعادة الإعمار: ذهبت التقديرات إلى أن إعادة إعمار سوريا تتطلب من 250 مليار دولار إلى 400 مليار دولار، فتوافر هذه القيم يُعد مطلبًا أساسيًا لعودة الحياة الاقتصادية إلى سوريا، وعليه تم عرض خطط أممية بقيمة 1.3 مليار دولار؛ لإعادة بناء البنية التحتية التي تدمرت بعد سنوات من الحرب، إذ تضمن الخطة ترميم الطرق والجسور وإصلاح شبكات الكهرباء والمياه، وإحداث ثورة رقمية في الاقتصاد السوري، وكان من المنتظر تنفيذها مع مطلع عام 2025 لكنها لم تُنفذ حتى الآن.
في حين أوضح وزير الصناعة والتجارة والتموين الأردني، أن بلاده تعمل لتكون بوابة الدخول لإعادة إعمار سوريا، كما أعرب رئيس الوزراء الماليزي على استعداد بلاده، لتشجيع الشركات الماليزية للمشاركة والاستثمار في جهود إعادة إعمار سوريا.
ومن هنا يتضح أن مختلف المساعدات الخارجية، لإعادة إعمار سوريا، لم تظهر بشكل جدي في الاقتصاد السوري، فالوضع يحتاج إلى تحركات عاجلة، حتى يستطيع الاقتصاد تحمل الأزمات المختلفة.
(-) مستوى الاستقرار السياسي: يوضح مدى تحقيق الاستقرار السياسي في سوريا، درجة مرونة الاقتصاد في التعامل مع الأزمات الداخلية والخارجية المختلفة، ويُشار من الأحداث الأخيرة أن سوريا لم تنعم بعد بأي استقرار على المستوى السياسي، فمطالب الجماعات الكردية السورية بتبني نظام حكم لا مركزي في سوريا، يؤثر على وحدة الأراضي السورية، كما أن الفتن المنتشرة على وقع الاشتباكات التي حدثت في منطقة صحنايا، تُنذر بخطر كبير، خاصة مع طلب زعيم الدروز بتدخل"قوات دولية لحفظ السلام".
وعلى هذا الأساس يُمكن القول إن الجهود التي سبق ذكرها لن تُحقق جدواها في ظل التوترات السياسية الحالية، فالاستثمار الأجنبي لا ينجذب في ظل هذه الظروف، والدول لا تعمل فعليًا على تقديم مساعدات إعادة الإعمار في ظل عدم الاستقرار الحالي، وهو الأمر الذي يوضح أنه حال فشل الحكومة السورية في تحقيق إعادة الاستقرار إلى البلاد، فالاقتصاد لن يصمد كثيرًا.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الاقتصاد السوري يواجه ثلاثة سيناريوهات، أولها يتضمن استمرار الوضع الحالي الذي سيترتب عليه المزيد من التدهور الاقتصادي والانهيار التدريجي للمؤسسات، وثانيها هو التحسُن الأمني الجزئي الذي قد يسمح بانتعاش نسبي لبعض القطاعات، لكنه غير كافٍ دون حلول سياسية واقتصادية حقيقية، وثالثها هو انفراج سياسي شامل وهو الأمل الأكبر، لإنعاش الاقتصاد عبر إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات.
وفي النهاية يُمكن القول إن الاقتصاد السوري في وضع حرج للغاية، إذ إنه يعتمد على الحد الأدنى من الموارد والدعم الخارجي، إضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي في سوريا، التي تجعل من الصعب تحقيق الانتعاش الاقتصادي الحقيقي.
ومع أن الاقتصاد السوري أبدى قدرة نسبية من الصمود بفعل التحويلات الخارجية والدعم المحدود من بعض الحلفاء، إلا أن أي تعافٍ حقيقي يظل مرهونًا بتحقيق الاستقرار السياسي، وإطلاق عملية إعادة الإعمار، فإن عدم معالجة جذور الأزمة سيؤدي إلى مزيد من التدهور، ويجعل من الصعب على الاقتصاد الاستمرار في التحمُل دون تكلفة باهظة اقتصاديًا واجتماعيًا.