لم يعد الحضور الكاهاني المتطرف في إسرائيل محصورًا على أطراف السياسة، بل بات يتردد صداه في أروقة الكنيست ومكاتب الوزراء وسفارات البلاد حول العالم، إذ تحول من منظمة كانت تُصنّف إرهابية إلى أحد أبرز ملامح الحكم في إسرائيل.
ويشكل صعود أتباع الحاخام مائير كاهانا قصة اختراق طويل النفس. وحسب مجلة "+972" الإسرائيلية، تسللت أفكاره الفاشية من التلال النائية في الضفة الغربية إلى قلب مؤسسات الحكم، لتصبح جزءًا من المشهد السياسي الرسمي الإسرائيلي.
دبلوماسي من جماعة إرهابية
في يناير الماضي، تم تعيين يحيئيل لايتر سفيرًا لإسرائيل لدى الولايات المتحدة، وهو منصب رفيع عادة ما يُمنح لنخبة السياسيين والدبلوماسيين. ولايتر، المولود في الولايات المتحدة والمهاجر إلى إسرائيل، يمتلك سيرة حافلة بين مناصب حكومية رفيعة، بينها رئاسة ديوان وزير المالية بنيامين نتنياهو، وزميل في منتدى كوهيليت اليميني المؤثر، قبل انتقاله إلى القطاع الخاص.
لكن اللافت في سيرة لايتر، ما لا يُذكر غالبًا في البيانات الرسمية هو عضويته السابقة في "رابطة الدفاع اليهودية" التي أسسها الحاخام مائير كاهانا، وهي منظمة صنفت كإرهابية من قبل كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
وانضم لايتر لاحقًا إلى حركة كاخ، الذراع السياسية الفاشية لتلك الرابطة. هذه الحركة، التي استمدت أيديولوجيتها من كاهانا، أصبحت لاحقًا النواة الفكرية للكاهانية المعاصرة. علاوة على ذلك، تولى لايتر قيادة المستوطنة اليهودية المتطرفة في الخليل، وكان من أبرز ناشطي حركة الاستيطان الإسرائيلي.
في عام 1994، ارتكب باروخ جولدشتاين، وهو مهاجر أمريكي وعضو في حركة كاخ، مذبحة في الحرم الإبراهيمي راح ضحيتها 29 فلسطينيًا أثناء صلاة الجمعة. على إثرها، صنفت إسرائيل والولايات المتحدة حركة كاخ منظمة إرهابية. ومع أن وزارة الخارجية الأمريكية أزالت هذا التصنيف عام 2022، فإن الماضي الدموي للكاهانية لا يزال حيًا في ذاكرة الفلسطينيين والمراقبين الدوليين.
ورغم هذه الخلفية، عُيّن لايتر سفيرًا في واشنطن، مما اعتُبر مؤشرًا صارخًا على مدى تطبيع التطرف داخل الجهاز الدبلوماسي الإسرائيلي، بل وتبييض سجلات شخصيات كاهانية على المستوى الدولي.
عودة بن جفير
بعد أشهر قليلة، حط وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن جفير، وهو من أتباع كاهانا، رحاله في الولايات المتحدة في زيارة رسمية، رغم قطيعته المعلنة من إدارة بايدن. التقى بن جفير خلال الزيارة بعدد من أعضاء الكونجرس الجمهوريين، وخاطب مؤيدين له في مارالاجو وجامعة ييل، وزار سجنًا ومتجرًا للأسلحة ومدرسة يهودية في فلوريدا.
بن جفير، الذي أُدين سابقًا بدعم منظمة إرهابية، يُعدّ نموذجًا آخر لاختراق الكاهانية للمؤسسة السياسية الإسرائيلية، بل الدولية أيضًا، حيث تتداخل علاقاته مع أوساط اليمين المتطرف في الولايات المتحدة.
ما يثير القلق بشكل أعمق، حسب "+972"، هو أن الحضور الكاهاني لم يعد مقتصرًا على المناصب الوزارية، بل أصبح جزءًا من النسيج البرلماني ذاته. فأعضاء في الكنيست ووزراء ومسؤولون باتوا يرددون تصريحات تُحاكي خطاب حركة كاخ.
ففي 9 أكتوبر 2023، وصف وزير الدفاع السابق يوآف جالانت الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية"، داعيًا إلى التصرف وفقًا لهذا التوصيف خلال الإعلان عن حصار كامل لغزة. أما عضو الكنيست عن الليكود نيسيم فاتوري فدعا إلى "محو غزة من على وجه الأرض"، بينما صرّح زميله أميت هاليفي بأن "غزة يجب أن تُترك كنصب تذكاري، مثل سدوم".
حتى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو استخدم خطابًا توراتيًا فُسّر على نطاق واسع بأنه دعوة إلى مجزرة جماعية. هذا التحول لم يكن مفاجئًا لمن تابع مسيرة السياسة الإسرائيلية في العقود الماضية، إذ باتت تصريحات الإبادة الجماعية جزءًا من الخطاب الرسمي، تعكس التقاء غير مسبوق بين الكاهانية وهذا التيار الجديد من اليمين الإسرائيلي.
من منبوذين إلى صناع القرار
شهدت انتخابات نوفمبر 2022 سلسلة من السوابق السياسية، دخول أحد أتباع كاهانا إلى الحكومة، ووزير كان ناشطًا في حركة شباب التلال، وتحقيق قائمة انتخابية كاهانية أكثر من 10% من أصوات الناخبين. ووُصف الائتلاف الحاكم الجديد آنذاك بأنه "الأكثر يمينيةً وتطرفًا" في تاريخ البلاد، بدقة لا تقبل المبالغة.
وعلى مدى العقود، كانت المؤسسة السياسية الإسرائيلية تمتص تدريجيًا شخصيات من اليمين الراديكالي كانت في يوم من الأيام تقف خارج الحكم وتحتج ضده، وأصبح هؤلاء اليوم أعضاء في الكنيست، وموظفين حكوميين، ومستشارين نافذين.
ليست هذه الظاهرة جديدة تمامًا، فقد اندمج اليمين المسلح المتشدد الذي فجّر فنادق ومراكز في عهد الانتداب البريطاني داخل المؤسسات الإسرائيلية الحديثة بعد تأسيس إسرائيل، وبعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، أطلقت حركة الاستيطان اليهودي موجة جديدة من التشدد، غذّاها اليمين الديني والقومي.
ولعل أكثر ما يميز الكاهانية هو ثباتها الأيديولوجي، وعمرها الطويل مقارنة بحركات يمينية أخرى. وعلى غرارها، وجدت حركات مثل غوش إيمونيم، والحركة السرية اليهودية، وحركة جبل الهيكل، وشباب التلال مكانًا لها داخل أروقة الحكم، سواء عبر التمثيل البرلماني أو العمل كمستشارين ونواب مساعدين.
جيل جديد من الغلاة
تُظهر هذه الظاهرة نمطًا جيليًا متكررًا من جماعات يمينية متطرفة تبرز كرد فعل على أي تقارب سياسي مع الفلسطينيين، ثم تتحوّل تدريجيًا إلى جزء من المؤسسة التي كانت تعارضها، من معارضي اتفاق كامب ديفيد وأوسلو، إلى معارضي وقف الاستيطان، دائمًا ما تتمحور مطالبهم حول توسيع المستوطنات، تطهير الأرض من الفلسطينيين، وفرض السيادة اليهودية الكاملة.
وجاءت النتيجة، حسب "+972"، بتفريغ الاحتجاج من قوته عبر استقطاب رموزه، وفي الوقت ذاته، شرعنة الفكر المتطرف وتمكينه من رسم السياسات. وبذلك، تنتقل أفكار كاهانا من هامش الإرهاب إلى صلب الحكم، مغلّفة بشرعية انتخابية ومؤسسية.
وبات اختراق الكاهانية للمؤسسة السياسية الإسرائيلية أمرًا واقعًا لا يمكن إنكاره، فبين دبلوماسيي إسرائيل ووزرائها، أصبح ماضي الانتماء إلى منظمات مصنفة إرهابية مسألة تُمرّر دون مساءلة، ما دامت تخدم تيارًا يمينيًا متصاعدًا، ليتحول التطرّف في إسرائيل إلى سياسة دولة.