في إشارة لتحول محتمل بالمفاوضات المتعثرة لإنهاء الحرب، اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأحد 11 مايو 2025، إجراء مفاوضات مباشرة مع أوكرانيا، 15 مايو الجاري، بالتوازي مع دعوة أوكرانية أوروبية لبدء وقف إطلاق نار لمدة 30 يومًا، تبدأ في 12 مايو.
وعلى الرغم من التباين الواسع، استأنف الطرفان جهودًا مكثفة لدعم مواقفهما بشأن أي مباحثات مقبلة لتسوية الصراع ووقف الأعمال القتالية، مع دخول تركيا على خط المباحثات كوجهة مقترحة للمباحثات المباشرة باتصالات رئاسية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيريه الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد أيام من اتصال بين أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي دوافع الدعوة لمباحثات مباشرة بين روسيا وأوكرانيا وحدود استجابة الأطراف المنخرطة في الصراع لجهود التسوية الراهنة.
دوافع متعددة
يبدو الطرفان بحاجة لاستئناف المباحثات المباشرة بشأن وقف الحرب بعد استيفاء أوراق الضغط اللازمة وتثبيت الخطوط العريضة للتفاوض، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
(*) تحريك المفاوضات: تأتي الدعوة الروسية لتحريك مباحثات وقف إطلاق النار على قاعدة الضغط الميداني الروسي لتحرير الأراضي الروسية، في مواجهة تكتيك القوى الغربية التي تلوح بمقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بوقف إطلاق نار فوري وغير مشروط لمدة 30 يومًا، بعد هدنة جزئية أعلنتها روسيا من جانب واحد لمدة 3 أيام، خلال الاحتفال بالذكرى الثمانين لعيد النصر في الحرب العالمية الثانية، وهو ما يدفع الحرج عن موسكو في تعطيل مقترحات السلام.
وعلى الجانب الآخر؛ رفعت الإدارة الأوكرانية سقف المفاوضات بإعلان توجه الرئيس فولوديمير زيلينسكي، إلى تركيا لمقابلة نظيره الروسي فلاديمير بوتين، الذي يُحافظ على ترقب الأوساط الإعلامية لإمكانية مشاركته المباشرة في جولة المفاوضات المقبلة.
(*) تحييد التأثير الأوروبي: على الرغم من الترحيب الأوكراني المسبق باستضافة تركيا للمحادثات مع روسيا، إلا أن سياق تلك الدعوة يرتبط ببعد رمزي في سجل مباحثات وقف إطلاق النار، منذ أبريل 2022، إذ تتمسك روسيا بـ"بروتوكول إسطنبول"، الذي توصلت إليه تلك المحادثات تحت وطأة الهجوم الروسي تجاه العاصمة كييف في بداية الحرب، واتهمت حينها موسكو لندن بقيادة رئيس الوزراء بوريس جونسون، بدفع كييف للتراجع عن توقيع الاتفاق مقابل استمرار الدعم العسكري.
وترتبط المحادثات المقترحة وفق الرؤية الروسية على معالجة "جذور الصراع" ضمن متوالية المفاوضات، التي بدأتها موسكو مع واشنطن، وبالتالي تحييد دور القوى الأوروبية في "تغذية الصراع" ومن ثم الالتفاف على مقترحات نشر قوة حفظ سلام أوروبية بأوكرانيا بعيدة عن خطوط القتال الأمامية مقابل ضمانات أمنية فضفاضة تعالج مخاوف اندلاع حرب غربية روسية في أوكرانيا وتضمن بقاء روسيا كدولة ضامنة لأمن أوكرانيا امتدادًا لما فرضته اتفاقات مينسك.
وتتوازى المساعي الروسية مع تقدم المباحثات بين "تحالف الراغبين" للوفاء بالتزاماتهم تجاه أوكرانيا وإعادة توجيه دفة المفاوضات بالضغط على روسيا وإظهار وحدة الموقف الأوروبي للمفاوض الأمريكي.
(*) الضغوط والمحفزات الدولية: قدمت روسيا في احتفالات 9 مايو 2025، انتصارًا معنويًا للحفاظ على وضعية القوة العظمى "غير القابلة للهزيمة" عبر تعزيز سرديتها في محاربة "النازية" واستعراض فشل المساعي الغربية لعزل موسكو دوليًا في أعقاب حرب أوكرانيا عبر حضور عدد من قادة العالم، ومن بينهم رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو. وخلافًا لحالة المواجهة السابقة مع إدارة بايدن يرغب الكرملين في عدم تعكير أجواء المفاوضات مع البيت الأبيض، حول شؤون الاستقرار الاستراتيجي والقضايا الدولية الأخرى التي استثمرت فيها موسكو وراكمت نفوذًا متعاظمًا في بعضها.
وتدرك موسكو على الجانب الآخر مواقف الدول الكبرى التي شاركت في احتفالات عيد النصر ولديها مبادرات مهمة لإيجاد تسوية سلمية للحرب الروسية الأوكرانية وعلى رأسها موقف الرئيس الصيني شي جين بينج، الذي عبر عن رغبة بلاده في التوصل لـ"اتفاق سلام عادل ومستدام وملزم تقبله جميع الأطراف المعنية".
حدود الاستجابة
تبدو المحادثات بشأن تسوية الحرب الروسية الأوكرانية في طريقها لإحراز بعض التقدم مع نجاح سياسة الغموض الأمريكية في دفع الأطراف للتباحث حول قضايا الضمانات الأمنية المتبادلة والخطوط العريضة لأي اتفاق سلام مستدام يحفظ الأمن الأوروبي والدولي، ويمكن الوقوف على حدود استجابة الأطراف المنخرطة في النزاع الروسي الأوكراني للمحادثات المرتقبة على النحو التالي:
(&) الجبهة الأوروبية: قدمت القوى الرئيسية في أوروبا جهدًا محوريًا في دفع أوكرانيا لإظهار حسن نية في التفاوض بشأن إنهاء الحرب وترميم علاقتها بالولايات المتحدة، إلى جانب تعزيز الدعم الدبلوماسي والسياسي للقيادة الأوكرانية، وهو ما يعزز تلك القوى بالتفاوض غير المشروط سواء بوقف إطلاق النار لترميم الخسائر المتفاقمة في البنية التحتية المدنية وتقليل المخاطر أمام أي نشر محتمل لقوة "حفظ سلام" بمشاركة أوروبية، التي سيتقيد عددها بفرص صمود اتفاق السلام المأمول، فضلًا عن حدود تفويض تلك القوة، وكذلك الحاجة لبناء قوة أوروبية مشتركة للحفاظ على أمن القارة أمام التقليص المحتمل للقوات الأمريكية.
وفي ضوء القمة الخماسية بكييف والاتصال الهاتفي المشترك مع الرئيس الأمريكي، يُظهر الأوروبيون رغبتهم في الحفاظ على مسار مزدوج لتحقيق السلام في أوكرانيا؛ يقوم على الاستجابة لمبادرات التسوية المطروحة تحت المظلة الأمريكية بالتوازي مع توفير الدعم الدبلوماسي واللوجيستي لأوكرانيا لتحقيق المصالح المشتركة والتلويح بمزيد من العقوبات الأوروبية والأمريكية على روسيا، ما يعني إظهار حسن النوايا في التفاوض من حيث المبدأ.
(&) الضامن التركي: في ظل اعتمادها على الغاز الروسي ورفضها للعقوبات الغربية من ناحية ومساهمتها في تسليح أوكرانيا بالطائرات المسيّرة من ناحية أخرى، لعبت تركيا دورًا رئيسيًا في جهود الوساطة على مدار الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ويمهد بروتوكول إسطنبول لدور تركيا كإحدى الدول الضامنة لأمن أوكرانيا. وإلى جانب دورها في استضافة محادثات مباشرة بين الجانبين بعد شهر من اندلاع الحرب، كانت أنقرة ملتقى المحادثات الاستخباراتية بين روسيا والولايات المتحدة، نوفمبر 2022، لإدارة التصعيد ومنع الصدام بين موسكو وواشنطن.
وعلى الرغم من التحفظات السابقة لروسيا على الوساطة التركية، يظهر اختيار بوتين لعقد المحادثات المباشرة في إسطنبول مكتسبات مهمة لتركيا من الصراع وجهود تسوية الحرب، فمن ناحية تمثل المضايق التركية أهمية استراتيجية في خفض التصعيد ومراقبة التزام الطرفين والأطراف المنخرطة في الأزمة بالتهدئة في البحر الأسود. كما تعد أنقرة شريكًا موثوقًا لموسكو في مشروعات نقل وتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا بديلًا عن أوكرانيا، ما يعطى حصانة لخطوط الطاقة الروسية عبر البحر الأسود والأراضي التركية من أي عمليات تخريب مستقبلية.
ويبدو الموقف التركي في المحادثات الراهنة مدعومًا من المفاوض الرئيسي في المباحثات الحالية ممثلًا في الولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب، وهو ما أبرزه الرئيس الأمريكي، عبر التلميح بإمكانية مشاركته في جولة إسطنبول لدفع المحادثات قدمًا والوفاء بأبرز تعهداته الخارجية في الولاية الرئاسية الثانية بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.
ويتزامن ذلك مع توجه أوروبي أكثر تقاربًا من تركيا، خاصة بعد انتقال السلطة في سوريا وبدأ مسار تاريخي للسلام مع الأكراد مقابل حل حزب العمال الكردستاني وإنهاء الصراع المسلح مع الدولة التركية، إلى جانب تقلبات التصريحات الأمريكية إزاء تقليص الانتشار العسكري ودفع دول حلف الناتو لإنفاق المزيد من ناتجها الإجمالي على التسليح.
وإجمالًا؛ توفر الأجواء المحيطة بالمفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول التركية مؤشرات إيجابية على بدء مرحلة جديدة من جهود تسوية الحرب وانخراط غير مباشر لأوروبا عبر تجديد الالتزام بدعم أوكرانيا وعدم تهميش مصالحها الحيوية. وفي المقابل يظل التحدي الرئيسي في هذا الصدد مدى استجابة الجانب الروسي للدعوة التي أطلقها الرئيس بوتين للمحادثات المباشرة على وقع استمرار إطلاق النار، فمن ناحية قد يُسهم اللقاء المباشر بين الطرفين في حلحلة المفاوضات وتحقيق التهدئة اللازمة لوقف الحرب على المدى القريب، ومن ناحية أخرى يعزز السردية الروسية بالدعوة للمفاوضات من موقع الطرف المنتصر وتهميش التأثير الأوروبي على المحادثات إلى جانب إبقاء الكرة في ملعب الولايات المتحدة، خاصة بعد إعلان استعادة السيطرة الروسية الكاملة على مقاطعة كورسك.