يبدو أن أبواب اللجوء لم تعد تُفتح استنادًا إلى الخوف من الاضطهاد بقدر ما تُفتح حسب لون البشرة أو المصالح الاستراتيجية، ففي لحظة فارقة من تاريخ الولايات المتحدة المعاصر، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يُدشّن عهده بسياسة لجوء مثيرة للجدل، قائمة على ما اعتبره "تمييزًا عنصريًا مقلوبًا" ضد الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا.
وعلى وقع قرع الطبول السياسية، وصلت أول طائرة محمّلة بأحفاد المستوطنين الهولنديين إلى مطار أمريكي، فيما أُغلقت الأبواب في وجوه لاجئين آخرين يعيشون في العراء، مطاردين برائحة الدم والقهر والفقر من آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، وتم ترحيل آخرين إلى دول أخرى.
استثناء "أبيض" من المنع
مع تسلّمه مقاليد الحكم، نفّذ دونالد ترامب وعده الانتخابي بوقف استقبال اللاجئين، مُعلنًا في أول أيام رئاسته تعليقًا تامًا لبرنامج قبول اللاجئين إلى الولايات المتحدة، ما أوقف خطط إعادة توطين الآلاف ممن فرّوا من الاضطهاد والعنف حول العالم.
لكن هذا التجميد لم يدم طويلًا، إذ وبعد 18 يومًا فقط، استثنى ترامب فئة واحدة من هذا القرار وهم البيض الأفريكانيون من جنوب أفريقيا، حسب صحيفة التايم الأمريكية.
وفي يوم الاثنين التالي لهذا القرار، حطّت أول طائرة مستأجرة تقلّ نحو 50 لاجئًا أبيض من جنوب إفريقيا في مطار دالاس الدولي بولاية فرجينيا، خارج العاصمة واشنطن، معلنةً انطلاق مرحلة جديدة وغير مسبوقة في سياسة اللجوء الأمريكية.
الأفريكانيون "ضحايا التمييز"
الوافدون الجدد هم من الأفريكانيين، أي أحفاد المستوطنين الهولنديين الذين استوطنوا جنوب إفريقيا في القرن السابع عشر، وهي المجموعة التي حكمت البلاد من 1948 حتى انتهاء نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) عام 1994، وقد استند ترامب في استثنائه لهؤلاء إلى ما وصفه بـ"التمييز العنصري الجائر" الذي يُمارس ضدهم في بلدهم الأصلي.
وفي حفل استقبال رسمي، التُقطت صور اللاجئين الجدد وهم يرفعون الأعلام الأمريكية، فيما رحّب بهم كريستوفر لاندو، نائب وزير الخارجية آنذاك، قائلًا: "أنتم بذور عالية الجودة، وستزدهرون هنا في الولايات المتحدة".
وأضاف لاندو، موجهًا كلامه إلى العائلات القادمة: "أعلم أن العديد منكم مزارعون، عندما يكون لديك بذور جيدة وتزرعها في تربة أجنبية، فإنها تزدهر".
ترامب يبرّر
ردًا على سؤال من صحيفة "التايم" حول سبب ترحيبه بهؤلاء الأفريكانيين دون غيرهم من اللاجئين الأفارقة، أجاب ترامب قائلاً: "يُقتل المزارعون، صحيح أنهم بيض، لكن سواء كانوا بيضًا أو سودًا، لا فرق لدي، لكن المزارعين البيض يُقتلون بوحشية وتُصادر أراضيهم في جنوب إفريقيا".
تصريحات ترامب جاءت في سياق القانون الذي أقرته حكومة جنوب أفريقيا عام 2024، والذي يهدف إلى إعادة توزيع الأراضي الزراعية التي لا تزال غالبيتها في أيدي البيض، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء نظام الفصل العنصري.
جنوب إفريقيا ترد
سارعت وزارة العلاقات الدولية والتعاون في جنوب إفريقيا إلى الرد على تصريحات ترامب، قائلة في بيان رسمي: "الإحصاءات الرسمية من الشرطة لا تدعم مزاعم الجرائم العنيفة التي تستهدف المزارعين عمومًا أو البيض بشكل خاص".
وأضافت الوزارة أن هناك هياكل قانونية كافية لمعالجة أي مخاوف تتعلق بالتمييز، مؤكدة أن "تلك الادعاءات لا ترقى إلى مستوى الاضطهاد المحدّد في قوانين اللجوء المحلية والدولية".
وصرّح ستيفن ميلر، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض آنذاك، بأن رحلة الأفريكانيين ليست سوى بداية لبرنامج "أوسع نطاقًا" لإعادة توطينهم في الولايات المتحدة، وأكد أن أوضاعهم "تتوافق تمامًا مع التعريف الرسمي للاجئ"، بحسب تعبيره.
وكان إيلون ماسك، الملياردير الشهير المولود في جنوب إفريقيا وأحد حلفاء ترامب، قد دعا عبر منصة "إكس" إلى "حماية البيض في جنوب إفريقيا" مما وصفه بـ"الإبادة الجماعية البيضاء".
استثناء مفوضية اللاجئين
في مخالفة للإجراءات المتبعة، لم يتم فحص اللاجئين القادمين من جنوب إفريقيا عبر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي الجهة الدولية التي تُعنى بتحديد المستحقين لإعادة التوطين وفق معايير دولية، وهذا الاستبعاد أثار استغرابًا وانتقادات من المنظمات الحقوقية والكنائس الأمريكية.
وردًا على قرار إدارة ترامب، أعلنت الكنيسة الأسقفية التي تعمل منذ أربعة عقود في مساعدة اللاجئين على الاستقرار، انسحابها من التعاون مع الحكومة الفيدرالية.
وقال رئيس الأساقفة القس شون دبليو رو في رسالة رسمية: "كان من المؤلم أن نرى مجموعة واحدة من اللاجئين، جرى اختيارهم بطريقة غير معتادة، يحصلون على معاملة تفضيلية بينما ينتظر آخرون لسنوات في مخيمات خطيرة".
وأضاف رو بأسى: "نشعر بالحزن والخجل لأن بعض اللاجئين الذين حُرموا من الدخول قد خدموا إلى جانب الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان، وهم الآن عرضة للانتقام".
أرقام وحقائق
وفقًا لأرقام برنامج قبول اللاجئين الأمريكي، استقبلت إدارة الرئيس جو بايدن 100,034 لاجئًا في السنة المالية 2024، ارتفاعًا من 60,014 في 2023، و25,465 في 2022.
وقد توزعت أصول هؤلاء اللاجئين على النحو التالي: (34,017 من إفريقيا، 7,540 من آسيا، 3,180 من أوروبا وآسيا الوسطى، 5,106 من أمريكا اللاتينية والكاريبي، 10,003 من الشرق الأدنى وجنوب آسيا).
لكن إدارة ترامب تُشير إلى منحى مختلف تمامًا، إذ يبدو أنها تتجه إلى تقليص الأعداد بشكل كبير، مع التركيز على قبول لاجئين "منتقين بعناية"، على حد تعبير مستشاريه.
انتقادات حقوقية
انتقد بيل فريليك، خبير في مجال حقوق الإنسان، بشدة هذه السياسات قائلاً: قبول بضع عشرات من البيض فقط من جنوب أفريقيا يُقوّض عقودًا من التقاليد الأمريكية في استقبال المضطهدين"، وأضاف: "هذا يُرسل رسالة واضحة ما لم تكن من الفئة المفضلة لدى الإدارة الأمريكية، فإن الباب مغلق تمامًا في وجهك".
وأشار فريليك إلى أن تجاهل نظام الأمم المتحدة في تحديد اللاجئين المستحقين يخلق سابقة خطيرة، قائلاً: "هذه سياسة تُرسخ مثالًا سيئًا قد تحتذي به دول أخرى حول العالم".