الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

حرب لم تضع أوزارها.. الاتفاق التجاري "الصيني - الأمريكي" هدنة أم مناورة؟

  • مشاركة :
post-title
واشنطن وبكين على طاولة بلا ضمانات

القاهرة الإخبارية - عبدالله علي عسكر

في مشهد لا يزال التوتر فيه ظاهرًا، تجلس الصين والولايات المتحدة مجددًا وجهًا لوجه على طاولة المفاوضات، بينما لا تزال أصداء الحرب التجارية ترنّ في الأسواق العالمية. فليست هذه مجرد معركة رسوم جمركية، بل صراع عقول واستراتيجيات، تتداخل فيه رهانات اقتصادية كبرى مع حسابات سياسية دقيقة.

فهل تمثل هذه الجولة تحولًا استراتيجيًا حقيقيًا، أم أنها مجرّد هدنة مؤقتة قبل انفجار جديد؟ وحسب شبكة "بي بي سي" الأمريكية، فإن تفاصيل المشهد ملتبسة بين قوتين عظميين بعد إعلان ما تم الاتفاق عليه، وما لا يزال معلقًا في ميزان الشكوك.

تصعيد لم تنطفئ نيرانه

مثّلت الصين أحد الأطراف الأكثر تحديًا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حربه التجارية التي أطلق شرارتها خلال ولايته، حيث واجهت الرسوم الجمركية الأمريكية بشيء من الصلابة والثبات، وراحت تبعث برسائل شبه يومية تؤكد فيها أنها لن تتراجع.

ومع تصاعد وتيرة العقوبات الجمركية والخطابات السياسية في واشنطن، ظلّ الموقف الصيني على ما هو عليه، متماسكًا، بل وساخرًا أحيانًا. فمع توجه مسؤولين صينيين إلى جنيف لإجراء محادثات تجارية، نشرت حسابات حكومية على وسائل التواصل الاجتماعي رسوماً كاريكاتورية تُظهر وزير الخزانة الأمريكي وهو يدفع عربة تسوق فارغة ــ في إشارة تهكمية إلى تأثير السياسات الأمريكية.

حتى في اللحظات الأولى من تلك المحادثات، تعددت الروايات بشأن من بادر بدعوة الآخر، لكن وبعد يومين مما وُصف بـ"المحادثات القوية"، بات من الواضح أن المناخ قد تغيّر، وإن لم يزُل التوتر بالكامل.

واشنطن وبكين

خلال مؤتمر صحفي في جنيف، صرّح وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت بأن "الإجماع بين الوفدين هذا الأسبوع هو أن أيًا من الجانبين لا يريد الانفصال"، وأضاف "ما حدث من رسوم جمركية مرتفعة كان بمثابة حظر اقتصادي لا يريده أي طرف، نحن نريد التجارة".

المحللون الاقتصاديون عبّروا عن دهشتهم من هذا التحول، إذ كان كثيرون يعتقدون أن التراجع عن الرسوم الجمركية سيكون جزئيًا، إلا أن الاتفاق الجديد نصّ على أن الرسوم الأمريكية على الواردات الصينية ستنخفض إلى 30%، بينما ستقلل الصين رسومها على السلع الأمريكية إلى 10%، بحسب ما نقلته وكالة رويترز عن تشيوي تشانج، كبير الاقتصاديين في شركة "بينبوينت" لإدارة الأصول في هونج كونج.

وقال تشانج: "هذه أنباء إيجابية للغاية لكلا البلدين، كما أنها تخفف من قلق المستثمرين بشأن التأثير المحتمل على سلاسل التوريد العالمية في المدى القصير".

وقد أثنى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على التقدم الحاصل، مغردًا على منصته "تروث سوشيال": "تمت مناقشة العديد من الأمور، وتم الاتفاق على الكثير منها، وتم التفاوض على إعادة ضبط كاملة بطريقة ودية ولكن بناءة".

بكين تغيّر لهجتها بحذر

في موقف لم يكن ممكنًا تصوّره قبل أسابيع فقط، أصدرت وزارة التجارة الصينية بيانًا وصفت فيه الاتفاق الأخير مع الولايات المتحدة بأنه "خطوة مهمة نحو حل الخلافات ووضع الأساس لجسرها وتعميق التعاون".

لكن هذا التحول لم يأتِ من فراغ، فبينما لا تزال الصين الشريك التجاري الأكبر لأكثر من 100 دولة، تواجه ضغوطًا داخلية متزايدة جرّاء تباطؤ اقتصادي واضح، فقد تراجعت ثقة المستهلكين، وتزايدت معدلات البطالة بين الشباب، وواجهت القطاع العقاري أزمات متراكمة.

وبحسب بيانات حكومية نُشرت يوم السبت، انخفض مؤشر أسعار المستهلك في الصين بنسبة 0.1% في أبريل، ما يمثل الشهر الثالث على التوالي من الانكماش، وسط تراجع الإنفاق وتخفيض الأسعار من قبل الشركات في محاولة للمنافسة على العملاء.

ووفقًا لتقارير إعلامية، اضطرت بعض الشركات الصينية إلى تسريح العمال وتوقيف خطوط الإنتاج بسبب تراجع الصادرات إلى السوق الأمريكية، مما عزز الحاجة إلى تهدئة التوترات التجارية.

رسائل غامضة

رغم لهجة الانفراج، لم تغب النبرة التحذيرية عن المواقف الصينية الرسمية، فقد اختتمت وزارة التجارة بيانها بدعوة غير مباشرة للولايات المتحدة إلى "تصحيح الممارسة الخاطئة المتمثلة في زيادة الرسوم الجمركية من جانب واحد بشكل كامل".

بل إن وكالة أنباء شينخوا ذهبت أبعد من ذلك في تعليقها، محذرة واشنطن بأن "صبر الصين وحسن نيتها لهما حدود، ولن يُستخدما ضد من يقمعوننا ويبتزّوننا بلا هوادة".

إنها لهجة تنم عن تصميم بكين على عدم الظهور بمظهر الطرف المتنازل، سواء أمام شعبها أو أمام المجتمع الدولي، فالرسالة الصينية واضحة: هي تتصرف بمسؤولية، وتبذل جهودًا لتفادي ركود اقتصادي عالمي، ولكنها لن تقبل بالإذلال السياسي أو الاقتصادي.

إطار تفاوضي جديد

تزامنًا مع هذه التطورات، أعلنت بكين وواشنطن عن التوصل إلى "آلية للتشاور الاقتصادي والتجاري"، ما يعني التزامًا باستمرار المحادثات بشكل منظم.

غير أن وصف ترامب لما جرى بأنه "إعادة ضبط كاملة" قد يكون مبالغًا فيه، فبينما يعبّر البعض عن التفاؤل، لا يزال الشك يحوم حول إمكانية ترجمة هذه الاتفاقات إلى حلول دائمة.

وصف تشانج يون، الباحث في كلية العلاقات الدولية بجامعة نانجينج، ما جرى بأنه "انتصار للضمير والعقلانية"، مؤكدًا أن المحادثات أرست الإطار اللازم للحوار المستقبلي، لكنه أشار أيضًا إلى أن هذا "النصر" محدود زمنيًا، إذ تم تعليق الرسوم الجمركية لمدة 90 يومًا فقط، وهو وقت مخصص لتقديم حلول تفاوضية أكثر عمقًا.

جذور عميقة للنزاع

ورغم ما تحقق في هذه الجولة، لا تزال الاختلالات الهيكلية بين الاقتصادين الأمريكي والصيني دون معالجة جذرية، فالصين تواصل تصدير أكثر مما تستورد من الولايات المتحدة، كما أن هناك قضايا أكثر تعقيدًا، مثل الدعم الحكومي للصناعات المحلية، والتوترات الجيوسياسية في مضيق تايوان، وملفات التكنولوجيا والملكية الفكرية.

إن الحرب لم تنتهِ، بل انتقلت من ساحات المصانع والمتاجر إلى غرف التفاوض، حيث تتخذ القرارات ببطء، ولكن بثقل لا يقل عن طلقات المدافع.

ليست المفاوضات الأخيرة بين واشنطن وبكين نهاية القصة، بل بداية فصل جديد منها، قد تكون الرسوم الجمركية قد هدأت، لكن أسباب التصعيد لا تزال قائمة.