في عالم تحكمه التوترات الاقتصادية، كما تحكمه السياسة، جاءت الأخبار من جنيف كمفاجأة سارّة لعالم بات يعاني من إرهاق النزاعات التجارية، فالولايات المتحدة والصين، قطبا الاقتصاد العالمي، قررا أخيرًا أن يضعا مؤقتًا أوزار حرب الرسوم الجمركية جانبًا، معلنين عن هدنة تدوم 90 يومًا لفتح نافذة محادثات قد تنقذ التجارة العالمية من دوامة الانهيار.
وحسب شبكة "أسوشيتد برس" الأمريكية، فإن الاتفاق يضع فصلًا جديدًا في ملحمة اقتصادية طالت، تعيد تشكيل التوازنات وتختبر حدود الصبر، وبالرغم من أن الخطوات ما زالت حذرة، فإن السوق التقط أنفاسه، والمستثمرون هلّلوا.
وقف التصعيد التجاري
في خطوة مفاجئة ومشجعة، أعلنت الولايات المتحدة والصين، الإثنين، توصلهما إلى اتفاق يقضي بإلغاء معظم الرسوم الجمركية الأخيرة، ووقف التصعيد التجاري المستمر بينهما منذ سنوات، وذلك لمدة 90 يومًا، وذلك عقب اتفاق محادثات مكثفة جرت في جنيف، بحضور مسؤولين بارزين من كلا البلدين.
وأكد الممثل التجاري الأمريكي، جيميسون جرير، أن الولايات المتحدة وافقت على خفض التعريفات الجمركية التي كانت قد بلغت نسبة 145% على السلع الصينية، إلى 30%، بينما التزمت الصين بخفض الرسوم على السلع الأمريكية إلى 10%. وأُعلن عن هذه الخطوات خلال مؤتمر صحفي مشترك عقده جرير ووزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت.
إذ كانت الرسالة واضحة أن لا الطرف الأمريكي ولا الطرف الصيني يرغبان في مواصلة فك الارتباط الاقتصادي الذي بات يهدد سلاسل الإمداد والأسواق المالية والنمو العالمي.
مفاوضات الفيلا التاريخية
خلال عطلة نهاية الأسبوع، اجتمعت الوفود الأمريكية والصينية في فيلا تاريخية تعود إلى القرن السابع عشر، مطلة على بحيرة جنيف، وتعد المقر الرسمي لسفير سويسرا لدى الأمم المتحدة، وساد المشهد حضور أمني مكثف من الشرطة السويسرية، لكن أجواء اللقاء، كما وصفها المشاركون، كانت ودية وحميمة.
وعُرف أن قادة الوفود انفصلوا في بعض الأحيان عن فرقهم الدبلوماسية وتبادلوا الحديث على شرفات الفيلا، ما ساعد في بناء جسور شخصية كانت مفقودة في المحادثات السابقة، وأسهم في التوصل إلى هذه الهدنة المفصلية.
تفاصيل الاتفاق
وفقًا لما أعلنته وزارة التجارة الصينية، وافق الطرفان على إلغاء 91% من الرسوم الجمركية المفروضة على سلع كل طرف، وتعليق 24% أخرى لمدة 90 يومًا، بما يشكّل خفضًا إجماليًا بمقدار 115 نقطة مئوية.
وفي بيانها، وصفت الوزارة الاتفاق بأنه خطوة "مهمة" نحو تسوية النزاعات الثنائية، مؤكدة أن الاتفاق "يتماشى مع تطلعات المنتجين والمستهلكين في كلا البلدين"، ويخدم مصالح الاقتصاد العالمي بأسره.
كما دعت الصين الولايات المتحدة إلى التوقف عن "الممارسات الخاطئة" في فرض الرسوم من جانب واحد، والعمل بشكل مشترك على ضخ المزيد من الاستقرار واليقين في المشهد الاقتصادي العالمي.
ضغوط متبادلة
الاتفاق الأخير لم يأتِ من فراغ؛ فقد تبادلت واشنطن وبكين في الشهور الماضية إجراءات تجارية قاسية، إذ شددت الصين الرقابة على تصدير المعادن النادرة، بما يشمل مواد حيوية لصناعات الدفاع الأمريكية، وأدرجت شركات أمريكية عدة في "قوائم الكيانات غير الموثوقة"، مما قيد أنشطتها داخل الأراضي الصينية.
في المقابل، فرضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رسومًا جمركية وصلت إلى 145%، في واحدة من أعلى المستويات في التاريخ الحديث، وهو ما دفع الصين إلى الرد برسوم بنسبة 125%، الأمر الذي أدى إلى شبه مقاطعة اقتصادية متبادلة بين القوتين الاقتصاديتين.
انتعاش الأسواق
كان لنبأ الاتفاق تأثير مباشر وإيجابي على الأسواق المالية، فقد ارتفعت العقود الآجلة لمؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 2.6%، وقفز مؤشر داو جونز الصناعي بنسبة 2%، كما ارتفعت أسعار النفط بأكثر من 1.60 دولار للبرميل، وصعد الدولار أمام اليورو والين الياباني، أما مؤشر هانج سنج في هونج كونج فقد ارتفع بنحو 3%، فيما حققت الأسواق الأوروبية مكاسب بلغت 0.7%.
وصف مارك ويليامز، كبير الاقتصاديين الآسيويين في "كابيتال إيكونوميكس"، الاتفاق بأنه "تهدئة كبيرة للتوترات"، لكنه حذر من أن الهدنة لا تضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار الاقتصادي، خصوصًا أن الملفات العالقة لا تزال كثيرة ومعقدة.
تشكيك وتحذيرات
رغم موجة التفاؤل في الأسواق، عبّر خبراء اقتصاديون عن تشكيكهم في المكاسب الأمريكية من الاتفاق. كتب داني رودريك، الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد، عبر منصة "بلو سكاي"، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يحصل من الصين على أي مقابل ملموس "مقابل كل الفوضى التي أحدثها"، مضيفًا أن الرسوم الأمريكية التي لا تزال عند 30% ستؤذي في المقام الأول المستهلك الأمريكي.
من جهته، قال إيسوار براساد، أستاذ السياسة التجارية بجامعة كورنيل، إن "الانخفاض من تعريفات مرتفعة للغاية إلى تعريفات مرتفعة فقط، إلى جانب عدم اليقين بشأن مسار السياسات المستقبلية، سيظل يشكل قيدًا على التجارة والاستثمار".
لكنه عاد ليشير إلى أن هذه الرسوم "رغم أنها لا تزال عوائق كبيرة، إلا أنها ليست جدرانًا لا يمكن تجاوزها"، وهو ما يعطي الاقتصاد العالمي فرصة للتنفس واستعادة التوازن.
أكد وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، في تصريح لقناة "سي إن بي سي"، أن الجانبين سيلتقيان مجددًا خلال الأسابيع المقبلة لمتابعة المفاوضات، وأوضح أن الهدف هو الوصول إلى "تجارة أكثر توازنًا" وليس الفصل أو المقاطعة الاقتصادية، وقال: "ما حدث مع هذه الرسوم الجمركية كان أقرب إلى الحظر، ولا أحد منا يريد ذلك. نحن نريد التجارة".